"اقتصاد الحرب"... سرديات أوروبية تتهاوى
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
ارتفع الإنفاق العالمي على التسلّح، للعام التاسع على التوالي، وفق أحدث تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، شهر إبريل/ نسيان الماضي، ليصل إلى 2.4 تريليون دولار، بنسبة زيادة قدرها %6.8 عن 2022، وتبقى الأكبر على أساس سنوي منذ 2009. جغرافياً، عمّت الزيادة كل مناطق العالم من أميركا الشمالية (943 مليار دولار)، حتى أميركا الوسطى والكاريبي (14.7 مليار دولار)، مرورا بأوروبا وآسيا ثم الشرق الأوسط فإفريقيا وأميركا الجنوبية وأوقيانوسيا، مع التباين في مقدار هذا الارتفاع، فقد حقّقت شمال أفريقيا أعلى نسبة (%38)، متبوعة بمنطقة شرق أوروبا (%31).
تتربّع الولايات المتحدة على قائمة الدول الأكثر إنفاقا، باستحواذها على 1/3 من إجمالي الإنفاق العسكري، بما قيمته 916 مليار دولار، بنسبة زيادة بلغت %2.3. تليها الصين التي رفعت النسبة إلى %6، مقارنة بالعام الماضي، لتخصص 296 مليار دولار للجيش. بذلك تكون الدولتان قد استأثرتا، وحدهما، بنصف إجمالي الإنفاق الدفاعي العالمي. روسيا الغارقة في حرب عمرها ثلاث سنوات، رفعت بدورها الإنفاق إلى 109 مليارات دولار، بزيادة قدرها %24، ما يمثل نسبة %16 من إجمالي الإنفاق الحكومي. وجاءت الهند رابعة في القائمة، بحجم إنفاق وصل إلى 83.6 مليار دولار، ما يرفع نسبة الزيادة إلى %4.2 مقارنة بعام 2022. فيما تصدرت السعودية الإنفاق في الشرق الأوسط، بنحو 75.8 مليار دولار، بنسبة زيادة بلغت %4.3؛ ما يجعلها متقدمة على دول مثل: المملكة المتحدة (74.9 مليار دولار)، وألمانيا (66.8 مليار دولار)، وفرنسا (61.3 مليار دولار)، واليابان (50.2 مليار دولار).
أرقام ومؤشرات متوقعة لكل مدقق في تطور الأوضاع في المشهد الدولي، فالعام الماضي كان الأكثر دموية في العالم، خلال آخر ثلاثة عقود، حيث رصد تقرير "مسح النزاعات المسلّحة حول العالم"، للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، 183 صراعا في العالم، أغلبها ذات بعد إقليمي، ساهمت في تصاعد الأحداث العنيفة بنسبة %28، كما رفعت ضحايا الحروب بنسبة %14، مع توقعات بتحول معظمها إلى صراعاتٍ طويلة الأمد عصيّةً على الحل.
تعزّز عودة أوروبا نحو العسكرة نتائج معهد ستوكهولم، فعلاوة على إنفاق الدول الأعضاء في حلف الناتو الذي بلغ 1341 مليار دولار، أي ما يعادل %55 من الإنفاق العسكري في العالم، استعاد زعماء أوروبيون، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، مصطلح "اقتصاد الحرب" الذي ارتبط ظهوره بزمن الحرب العالمية الأولى.
سقوط السرديات الأوروبية التي منحت الرجل الأبيض الأوروبي شرعية مخاطبة الأخرين
صيف عام 2022، استخدم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المفهوم، في سياق حديثه عن إنعاش صناعة الأسلحة الفرنسية، عبر دعم أكثر من أربعة آلاف شركة متخصّصة في التسلح. وتكرّر الأمر مع المستشار الألماني أولاف شولتز، فبراير/ شباط الماضي، حين طالب الاتحاد الأوروبي بتطبيق "اقتصاد الحرب"، مع ما يعنيه ذلك من إيلاء أهمية كبرى للصناعات الدفاعية الأوروبية، على هامش تدشينه أعمال بناء مجمّع صناعي في شمال ألمانيا. من جانبها، أعلنت المفوضية الأوروبية، شهر مارس/ آذار، على لسان تييري بريتون، المسؤول عن الصناعات الدفاعية، عن اشتغالها على وضع استراتيجية "لاقتصاد الحرب"، بعدما كشفت الحرب الأوكرانية أن ثلثي مشتريات الأسلحة في الاتحاد قادمة من خارج دوله.
عمليا، ظهرت بواكير التعاون الدفاعي أو التطبيق الفعلي لهذه الاستراتيجية الشهر الماضي (26 إبريل/ نيسان)، بتوقيع وزيري دفاع فرنسا وألمانيا، في باريس، على اتفاق لتصنيع دبابة قتالية جديدة، من المفترض أن تصبح الركيزة الأساسية للدفاع البري في البلدين، تعوض دبابات "لوكلير" الفرنسية و"ليوبارد" الألمانية، أطلق عليها اسم "نظام القتال البرّي الرئيسي" (MGCS)، سيتم اعتمادها في الجيشين بحلول عام 2035.
في السياق ذاته، تجدّد النقاش داخل أكثر من دولة أوروبية، في الآونة الأخيرة، عن الخدمة العسكرية الإجبارية، حيث اعتبر وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، تعليق العمل بها، منذ عام 2011، قرارا خاطئا. ودعا في البوندستاغ إلى إعادتها، وفق النموذج السويدي، حيث يستدعي الجيش المرشحين للخدمة، ويختار منهم المؤهلين للتعاقد معه بشكل دائم. من جانبه، ألح قائد الجيش الروماني، الجنرال غورغيتا فلاد، في فبراير/ شباط الماضي، على استعجالية تبني إطار قانوني يسمح للمتطوّعين المدنيين بمتابعة التدريب العسكري، ما ينبئ بقرب عودة الخدمة الإجبارية إلى رومانيا، بعد تعليقها في عام 2007.
تأتي عودة أوروبا إلى التسلح لتؤكد أفول سرديات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية
انتقلت لاتفيا من التخطيط إلى التنفيذ، مطلع العام الجاري، بإجبار المواطنين الذكور بأعمار ما بين 18 و27 عاما، على قضاء مدة تصل إلى 11 شهرا في الجيش، مع بقائهم جنودا احتياطيين لمدة خمس سنوات، مع ما يقتضيه ذلك من تدريبات عسكرية كل عام. يبدو أن حمى التجنيد عارمة في أوروبا، فحتى الدول التي حافظت على سريان الخدمة، مثل: السويد وإستونيا... سائرة نحو توسيعها لتعبئة أكبر عدد من الأفراد. بذلك يكون الأمر توجها أوروبيا عاما، وليس مجرد قرار فردي مرتبط بهذه الدولة أو تلك، لعله يخفف من وطأة النقص البشري الحاد في صفوف الجيوش الأوروبية؛ فنحو 2000 وظيفة عسكرية شاغرة في فرنسا، صاحبة أكبر جيش في أوروبا، أما في ألمانيا فالنسبة تصل إلى %18 من مجمل وظائف الجيش.
يعيش العالم منذ أشهر، وربما سنوات، على وقْع سقوط السرديات الأوروبية التي منحت الرجل الأبيض الأوروبي شرعية مخاطبة الأخرين، وأحيانا المزايدة عليهم، بعدها فضح وباء الإسلاموفويا زيف قيم التسامح والتعددية، وأسقطت حرب غزة خطاب حقوق الإنسان وإفك القوانين والمواثيق الدولية، وتأتي عودة أوروبا إلى التسلح لتؤكد أفول سرديات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ فأين شعارات السلم والإخوة والتسامح... وما تردد من شعارات رنّانة عقب تأسيس الاتحاد الأوروبي من مضي أوروبا نحو عالم بلا سلاح؟
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.