في معنى رئاسة يساريّةٍ يهوديةٍ المكسيك

02 يوليو 2024

رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم تعلن استكمال حكومتها في مكسيكو (27/6/2024 Getty)

+ الخط -

كان الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) انتخابيا بامتياز، إلى درجة أن تزاحم المحطات الانتخابية في أكثر من دولة غطى على تفاصيل كثيرة حملتها صناديق الاقتراع في أكثر من واقعة انتخابية، فقد شهدت المكسيك مثلا انتخابات تاريخية، هي الأكبر من حيث عدد الناخبين (98 مليونا) والمرشّحين (21 ألفا)، لاختيار رئيس البلاد وأعضاء المجلس التشريعي (628) وحكام الولايات (تسعة) وأزيد من 19 ألف مسؤول محلي.
عاكست الانتخابات هناك موجة اليمين المتطرّف المتنامية في العالم، بتأكيد استمرارية سيطرة اليسار على السلطة في ثاني أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، عقب فوز كلوديا شينباوم، المرشّحة باسم الحزب الحاكم؛ حركة التجديد الوطني (مورينا)، بنسبة 59,57%، وهي أعلى نسبة في تاريخ المكسيك، متقدّمة بفارق كبير عن سوتشيتل غالفيز؛ مرشّحة ائتلاف المعارضة التي حلت ثانية، بنسبة 27,45% من إجمالي الأصوات. بهذا الفوز، يعزّز اليسار صعوده في أميركا اللاتينية، بضمان البقاء في الحكم ست سنوات أخرى، ما يعني تمدّد قوس اليسار من المكسيك إلى البرازيل وكولومبيا وتشيلي.

لا تنكر شينباوم أصولها اليهودية، لكنها تبقى يهودية بالاسم فقط، فهي يسارية متشدّدة تفصلها مسافة واضحة عن الحركة الصهيونية

تصبح كلاوديا شينباوم أول امرأة تفوز بالرئاسيات في أميركا الشمالية، والسيدة الأولى في رئاسة جمهورية المكسيك التي تجاوزت مائتي عام، على اعتبار أن البلاد نالت الاستقلال عام 1821. بذلك، تنضم البلاد إلى قائمة الدول 11 التي حكمتها أو تحكمها النساء في المنطقة، بالرغم من هيمنة الثقافة الذكورية في المكسيك، فالبلد يسجل تفاوتات عميقة بين الجنسين، وزيادة في العنف القائم على النوع الاجتماعي، فأحدث بيانات الأمن الوطني تفيد بمقتل 2580 امرأة في المكسيك، عام 2023.
أثار فوز شينباوم سجالا على الصعيدين، الداخلي والخارجي، فالرئيسة الجديدة ذات خلفية يهودية؛ أبواها يهوديان من أوروبا الشرقية، في دولة ذات الأغلبية الكاثوليكية، لا يزيد اليهود فيها عن 60 ألفا من أصل 130 مليون نسمة. ما جعل أصواتا داعمة لإسرائيل تهلل للفوز، معتبرة ما حدث إنجازا، على اعتبار السيدة ثاني رئيس يهودي يحكم في أميركا اللاتينية، بعد الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي الذي شاع تحوله إلى اليهودية.
شكل موقف الحكومة المكسيكية من العدوان على غزّة، عقب التقدّم رسميا بطلب التدخل في قضية تهمة الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، معطىً عزّز السجال حول تأثير ديانة شينباوم على بوصلة الدبلوماسية في مكسيكو. خصوصا، مع تضارب الأقاويل حيال المسألة، فتارة تقدم نفسها "امرأة مؤمنة، لكنها لا تنتمي إلى أي دين"، فهي بذلك غير ملتزمة دينيا. وتارة أخرى تصر على إثبات الانتماء، كما ذكرت في مناسبة يهودية، "لقد نشأت بدون دين، هكذا رباني والدي، لكن من الواضح أن الثقافة اليهودية تسري في دمي".
لا تنكر "اليهودية البلغارية"، كما تصفها المعارضة، أصولها اليهودية، لكنها تبقى يهودية بالاسم فقط، فهي يسارية متشدّدة، تفصلها مسافة واضحة عن الحركة الصهيونية، فقد اشتهرت بتوقيع رسالة تدين فيها همجية الاحتلال الصهيوني في فلسطين. ثم إن كلوديا شينباوم، بحسب مراقبين، تلميذة الرئيس المنتهية ولايته، أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، المعروف بعدائه الشديد لإسرائيل، فكلاهما من نفس الحزب "مورينا"، بذلك يكون الانقلاب في المواقف لصالح إسرائيل، كما يروّج بعضهم لذلك، أمرا في غاية الصعوبة.
يمثل بقاء الرئيسة رهينة إرث سلفها أوبرادور أبرز التحدّيات التي تواجهها داخليا، فبقاؤها أسيرة مشروعه المعروف بـ"التحول الرابع"؛ أي الاهتمام بالبرامج الاجتماعية على حساب إنفاذ القانون، يحولها إلى نسخة منه، فيما المكسيك بحاجة ماسة إلى مواجهة التحديات الأمنية، فخلال السنوات الخمس الأخيرة ارتفع معدل الجرائم والابتزاز بنسبة 50% في البلاد، ما يفرض قطيعة مع نهج أوبرادور الأمني "العناق وليس الرصاص". يذكر أن هذه المحطة الانتخابية كانت الأكثر عنفا ودموية في تاريخ البلاد، فقد أودت بحياة 37 مرشحا أو طامحا للترشح لمناصب انتخابية، كما شهدت 272 هجوما على المرشّحين أو أشخاص لهم ارتباط بالعملية الانتخابية.
وعدت الرئيسة المكسيكيين، خلال الحملة الانتخابية، بالعمل على تعزيز إرث أوبرادور، وإن كانت الصحافة المحلية تعتبر ذلك مهمة صعبة، لاختلاف الشخصيتين، فكتب محلل سياسي، في صحيفة اليونيفرسال المكسيكية، بأن السيدة "لا تتمتع بالكاريزما ولا بالشعبية، ولا تتمتع بقدرة سياسية خاصة بها". ما جعل مراقبين يشكّكون في حديث أوبرادور، بعد إعلان النتائج، بقوله: "عندما تنتهي ولايتي، سأنسحب ولن أشارك في أي نشاط عام أو سياسي"، معتبرين أن طيف الرجل سيحضر في المشهد السياسي وراء الكواليس.

المكسيك بحاجة ماسة إلى مواجهة التحديات الأمنية، فخلال السنوات الخمس الأخيرة ارتفع معدل الجرائم والابتزاز بنسبة 50% في البلاد

عمليا، يصعب على سياسي من طينة أوبرادور مقتنع بأن ولايته الرئاسية منعطف فاصل في تاريخ البلاد، فهي بداية "التحول الرابع" بعد التحولات الثلاثة الكبرى (حرب الاستقلال وحرب الإصلاح والثورة المكسيكية) في تاريخ المكسيك، أن يغادر الحياة السياسية بسهولة، فالرجل بالكاد أسس حركة التجديد الوطني "مورينا"، عام 2014، عنوانها العريض تعزيز مسلسل التحرر من قبضة الهيمنة الأميركية، بخلق مسافة تحول والاصطدام معها، في إطار مشروع تحرري عابر لدول أميركا اللاتينية، بعد انسحابه من حزب "الثورة الديمقراطية" الذي كان من مؤسسيه أيضا عام 1989. واستطاع الحزب الاكتساح، في غضون عشر سنوات فقط، بعد حصوله على الأغلبية في البرلمان والفوز في 24 ولاية من أصل 32 في الجمهورية.
تلكم بعض التحديات التي تنتظر كلوديا شينباوم؛ عالمة الفيزياء التي جعلت المكسيك على أعتاب "زمن النساء"، فهل تسعفها قواعد وقوانين الفيزياء في إيجاد حلول فعالة لأقوى خامس عشر اقتصاد في العالم، وتجاوز أزمات السياسة والمجتمع في واحد من أعرق الأنظمة الديمقراطية في القارّة الأميركية، فتأسيس الولايات المتحدة المكسيكية يعود إلى عام 1810.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري