المرأة والميراث.. أو حين يكون الإسلام شأناً داخلياً

27 اغسطس 2017
+ الخط -
بقطع النظر عما سيؤول إليه أمر دعوة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، إلى النظر في المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث وإلغاء تشريعات أخرى ذات صلة كالتي تمنع المرأة (التونسية) من الزواج من أجنبي غير مسلم تحديدا، وهو إلى الآن مجبر على إعلان إسلامه أمام مؤسسة الإفتاء، فإن الجدل الذي أثارته ما زال صاخبا، خصوصا وقد امتد ليشمل أوساطا ومؤسسات دينية، وحتى دولية تبدو للوهلة الأولى غير معنية، إذ تتالت تصريحات عدة زعامات دينية خارجية، على غرار مفتي أستراليا، الازهر، مؤسسة ومشيخة في بيانات وتصريحات أدلى بها شيخ الأزهر، أحمد الطيب، الداعية واللاجئ السياسي، وجدي غنيم، فضلا عن منظمات وحركات دينية، لعل أهمها حزب التحرير والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين... إلخ. وقد اتسمت معظمها برفض ما ورد من دون الأخذ بالاعتبار انزياح بعضهم من ردود الأفعال تلك إلى تهم خطيرة، كالزندقة والنفاق والكفر... إلخ، وهي مواقف لا نعتقد أنها تساهم في إنضاج الجدل الفكري الذي قد يتيح تلمس حلول لمعضلات حقيقية قائمة، تحت إحراج ضغوط الواقع المعقد، ناهيك عن عولمةٍ متنامية للأفكار والتوجهات والقيم، وحتى المعايير، في ظل عالم انهارت فيه الحدود، وغدا كل شيء، فكرا وممارسة، مفتوحا للجميع.
أثارت ردود الأفعال ردودا عديدة عليها من رموز النخب الفكرية التونسية، وحتى حركات سياسية أو تنظيمات تفيد، في أغلبها، أن دعوة رئيس الجمهورية تلك شأن داخلي و"إننا لا نحتاج أن يعلمنا أحد إسلامنا، وأهل مكة ادرى بشعابها"، وعلى الأزهر خصوصا أن يرتب أمر بيته الداخلي، وهو "الذي أحلّ دماء ضحايا فض اعتصام ميدان رابعة العدوية وحرّم فتح معبر رفح"، فالأزهر، بحسب أغلب هؤلاء، يتصرف وكأن له تفويضا إلهيا، يجعله ناطقا باسم الرب، في حين أن معظم مواقفه الأخيرة تثبت أنه مؤسسة تشرّع للاستبداد والقهر، ولا يمكن أن يكون ضمير الأمة أو عقلها، على خلاف ما جاء في بيانه في هذا الغرض تحديدا.
أثارت ردود الأفعال تلك، وبقطع النظر عن الجهة التي تصدر عنها، أو تفاصيل مضمونها، أمرا جللا، سترتهن إليه الإصلاحات الدينية المرتقبة، ولو كانت بسيطة. إنه علاقة الإسلام 
بالدولة الوطنية، وأبعاده العالمية التي يمكن أن تصطم مع ذلك الارتباط المتخيّل، فعلى خلاف مسارات الدولة الوطنية الأوروبية التي علمنت، بشكل أو بآخر، المجال العام، جاعلة الالتزام الديني أمرا فرديا خالصا، تاركة للمواطنين اختيار شكل العلاقة التي يشاؤون بينهم وبين الكنيسة، فإن "الدولة الوطنية" في أغلب الأقطار العربية في عمرها القصير سعت إلى جعل الإسلام أحد أركان شرعيتها، من خلال التنصيص على ذلك دستوريا، بل عمد بعضها إلى جعله أساسا جوهريا لقيامها، فتنص في تسمياتها على صفة الإسلام صراحة (موريتانيا، باكستان، إيران... إلخ...). وهناك دول أخرى جعلت من هذا الإسلام علاماتٍ نصّت عليها الرايات الوطنية بشكل مباشر، أو غير مباشر، من خلال الرموز التي تتزين بها أعلام الدول (آيات، أهلة، ألوان متخيلة... إلخ)، وهو ما يجعل من الإسلام، بشكل أو بآخر، من مكونات الدولة الوطنية، فضلا عن طقوس وشعائر عديدة، يتم تأثيث الركح السياسي بها، وجعلها علامة تجارية سياسية للنخب الحاكمة. يعمق هذا الأمر معضلة الإحراجات المتبادلة بين الإسلام الوطني والإسلام العالمي في كل دولة. وهو ما يغذّي باستمرار نزاعا صامتا أو خفيا بين تلك النسخ الوطنية من الإسلام والمرجعيات الكونية المتخيلة أو المتوهمة أحيانا. تعبر تلك النزاعات عن نفسها بشكل سافر، وتنفجر في شكل آراء وفتاوٍ للمؤسسات الدينية الوطنية، وحتى الدولية، في مسائل سياسية وأخلاقية. لقد اندلعت مواجهات بين تلك المرجعيات، على إثر اندلاع أحداث عظام، مثل غزو العراق، مقاطعة قطر، المواريث... إلخ. علما أن هذا "الإسلام الوطني"، كما تم ترتيب شأنه، من خلال التاريخ القصير لهذه الدول الوطنية، يظل غاضا الطرف عن العلمنة المتزايدة للفضاء العام في تلك الدول تحديدا، على غرار الاقتصاد والتعمير والإعلام... إلخ. ولكن يظل، على الرغم من ذلك كله، مستنفرا في مسائل هوياتية أو ثقافية، يتخيلها بعضهم نواة الإسلام ولبه. لذلك بادر الأزهر وغيره إلى الدفاع عن الإسلام، متوهمين أنفسهم ناطقين باسمه أو حرّاسه، كما ذكر بيان الأزهر نفسه.
تؤكد التواريخ المحلية لمجتمعاتنا المسلمة أن الإسلام، بوصفه تجربة تاريخية، كان مثقلا بالخصوصيات المحلية التي عكست، بكثير من الدقة، تفاصيل الشأن المحلي وخصوصياتها، معتقدا وممارسات، وهي خصوصيات تجلي البنى الاجتماعية والثقافية بالمعنى الأنتروبولوجي: الأعراف القبيلة، المجتمع الذكوري ومنزلة المرأة فيه، تقنيات الجسد، المعاملات التجارية، وذلك ما جعل هؤلاء العلماء يطلقون أسماء عديدة على الإسلام، من قبيل الإسلام الآسيوي، الإسلام الأفريقي، الإسلام المغاربي، وحتى الإسلام الأوروبي، دلالة على معاش الإسلام الراهن لدى الجاليات المهاجرة هناك.
يمنح الإسلام المسلمين في مجتمعاتهم المحلية، بعد نشأة الدولة الوطنية تحديدا، خصوصيات كثيرة، وهي لا تنقل إرث تاريخ طويل من الاختلاف والثراء، وقفت عليه بدقة كتب الرحالة، وحتى المستشرقين في العصور المتاخرة، بل تنقل إرثا حديثا من الخصوصيات، في ارتباط مباشر ببناء الدولة الحديثة، على غرار شكل الدولة والمشاركة السياسية، الحريات الفردية، حقوق الإنسان ومنزلة حرية الضمير والحريات الفردية، ناهيك عن منزلة المرأة وحريتها والحياة الأسرية عامة.
كل هذه الخصوصيات المحلية المركبة والمعقّدة تجعل الناس في حياتهم اليومية، وهم مرتبطون 
بتجاربهم اليومية، مشدودين إلى إسلاماتهم المحلية، أي النسخ الوطنية تحديدا. وسيكون من الوهم تصور أن اجتهاداتهم المحتملة تنطلق من الموارد الأولى لذلك الإسلام الجوهري كما نتخيله، ذلك أن المواضيع التي تحرج المجتهد، وتحفزه على التفكير واستنباط الأحكام والحلول، مختلفة من بلد إلى آخر. وإذا كانت تلك الخصوصيات قد أوجدت قديما مذاهب وطوائف ومللا ونحلا عديدة، فإن هذه الخصوصيات تدفع حاليا إلى اجتهادات وطنية، قد نختلف ثقافيا أو روحيا معها، ولكن تظل معبرة عن روح مجتمعاتها، بعيدا عن طوبى إسلام عالمي، لا نعتقد أن المدافعين عنه قادرون على التفطن إلى نبض المجتعمات المحلية، المعبرة عن اختلافات إرث التحديث الراهن وإحراجاته المعقدة.
سيكون من العبث إنكار أن إسلاماتنا التي تعاش حاليا وطنية، يضايقها إسلام شمولي كوني، يظل رابطة روحية جامعة، لكنها عاجزة عن الإجابة عن معضلات محلية ناجمة عن سيرورات التحديث الوطني المحلي بكل قضاياه. هل تجيب المجتمعات الإسلامية عن أسئلة الديمقراطية والمشاركة السياسية بالجواب نفسه، والحال أن مجتمعاتٍ ما تحرم، انطلاقا من الإسلام ذاته، الديمقراطية، في حين ترى إسلامات وطنية أخرى، أو على الأقل اجتهادات إسلامية، أن الديمقراطية مطلب شرعي. وكيف يمكن أن نجتهد إسلاميا، لحل قضايا المرأة تحديدا. والحال أن بعض المجتمعات تلك ما زالت ترى في سفرها بمفردها إثما ومعصية. لن تكون مستندات الاجتهاد وروحه موحدةً، ما دامت تجارب التحديث الوطنية مختلفة. لذلك لن تكون الإجابات موحدة، وعلينا أن نتخير الأصلح بنا وطنيا.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.