12 نوفمبر 2024
عزمي بشارة "عقدة" الاستبداد العربي
منذ أولى إرهاصات ثورات الربيع العربي، بدأت الحملات الإعلامية الممنهجة ضد المفكر العربي عزمي بشارة. وتصاعدت حدة الهجوم مع تزايد المد الثوري، وتمرّد الشارع العربي ضد أنظمته الاستبدادية. وتراوحت الاتهامات الموجهة لهذا المفكر بين نظرية المؤامرة العربية المعتادة، من خلال التأكيد أن عزمي بشارة ضالعٌ في صناعة الثورات، بل ووصل الحال بكاتب خليجي إلى القول إن عزمي بشارة أنشأ مركزا في الدوحة لتعليم الشباب فنون التظاهر والاعتصام والاحتجاجات، وأن مخططه هذا أفضى إلى إطاحة نظام حسني مبارك في مصر على يد هؤلاء الشباب. كما كانت المواقع الإلكترونية والصحافية الموالية للنظام السوري قد حمّلته مسؤولية كل ما جرى في سورية، بشكل منح الرجل صورة "السوبرمان" القادر على إثارة الفوضى وتحريك الشوارع العربية وقتما يشاء وكيفما يشاء.
وبعيدا عن هذه التصوّرات الساذجة، والتي تدل على ضحالة أصحابها فكريا وسياسيا، بل وجفاف المخيال عندهم في صناعة أوهام قابلة للتصديق، ينبغي الإقرار أن عزمي بشارة قد مثّل فعلا "عقدة" أنظمة الاستبداد العربي، ولا يتعلق الأمر هنا بنظرية المؤامرة الممجوجة، وإنما من خلال الدور التنويري الذي قام به الرجل. ففي مختلف مراحل نشاطه السياسي والفكري، مثّل مصدر إزعاج حقيقي لكل التوجهات السلطوية، سواء في شكلها الاستعماري الإحلالي، كما في النموذج الصهيوني، أو بصورتها الاستبدادية السلطوية، كما الحال مع أنظمة الطغيان العربي.
وتكمن مصادر قوة الفكر السياسي لعزمي بشارة في طابعه الإشكالي بالذات، فالرجل علماني، ولكنه لا يعادي التوجهات الدينية، ولا يطالب باستئصالها. وهو ثائر تقدمي، ولكنه يتعامل
بواقعية مع الأحداث السياسية، وهو في ذلك كله مقاوم عنيد للاحتلال الصهيوني، واستخدم كل الأساليب المتاحة للدفاع عن حقوق شعبه، بداية من نضال الشارع، وصولا إلى النضال من خلال المؤسسات، مرورا بالكتابات الفكرية، ووضع النظريات الفلسفية العميقة.
شكّل نقد عزمي بشارة القوي والمُركّز للعقل الاستبدادي مدخلا أساسيا لفهم أسباب الهجوم عليه، ففي كتاباتٍ كثيرة له كان واضحا أن هذا المفكر يحاول تجذير فكرة الحرية والممارسة الديمقراطية في العقلية العربية، ما يعني ضرب المرتكزات التي قامت عليها منظومة الاستبداد العربي، وترسّخت طوال عقود من الضخ الإعلامي والتلاعب بالعقول. وليس سهلا التبشير بفكر تنويري، في ظل ذهنية استبدادية طاغية على المنطقة العربية، تحاول أن تجد لنفسها مبرّرات من التراث، ومن الممارسات السياسية، بالإضافة إلى ما تلقّاه من دعم خارجي، يعتبر الاستبداد حليفا لا غنى عنه.
ففي نقده طبائع الاستبداد، يؤكد بشارة أن المستبدين وأنصارهم يتحجّجون في رفضهم تحقيق الحريات بـ "مخاطر الفوضى والفتن، ويؤكّدون الاستقرار كقيمة، ولكنهم يعنون في الواقع استقرار نظام حكمهم وقبول الناس بواقع الظلم. ليست ثمّة مفاضلة بين قيمة وأخرى هنا، بل ابتزاز المحكومين بالتهديد بالفوضى والفتن التي يخشاها الناس أكثر من خشيتهم من الاستبداد". فتركيز بشارة على بيان تهافت أطروحة الاستبداد ومرتكزاتها، والتي يتم تمريرها للإنسان العربي تحت مبررات الوطنية والأمن وعدم جاهزية المواطن العربي للديمقراطية، يعني في هذا التصور أن المطالبة بالحرية تعني الانزياح إلى العنف، غير أن بشارة ينسف هذه الرؤية، لأن فشل الخيار الديمقراطي مرحليا "ليس معناه أن الشعوب العربية ليست مستعدة بعد للديمقراطية، كما يحاول أنصار النظم الديكتاتورية أن يوهموا الناس، الوهم الذي ينمسخ إلى نبوءةٍ سيئة وحقيقةٍ ماثلة في حالة واحدة فقط، هي حالة استمرار الديكتاتور في الحكم؛ لأن الناس لا تصبح ديمقراطيةً تحت الاستبداد، ولو مضى عليها مائة عام. لذلك يبدو هامش الحرية تحت النظم الاستبدادية بمثابة إمكانية لميلاد خيار ديمقراطي".
ويعتبر عزمي بشارة تنظيرات أبواق السلطة التي تبرّر للاستبداد نمطا من العبودية الجديدة،
إنها عقلية لا يمكن فهمها إلا ضمن التفسير السيكولوجي للعقلية التي تميل إلى الاستعباد، والتي تستمرئ الخضوع المطلق للسيد الذي يستعبدها، وفي الوقت نفسه، لا تقبل من يتمرّد عليه في نمطٍ من السلوك العُصابي الغريب. ويفسّر عزمي بشارة هذا التوجه بقوله "تتضمّن هذه النزعة احتقاراً للذات. فصاحب نفسية العبد لا يقبل أن يتفوّق من يشبهه في أي مجال كان، لسببٍ بسيط أنه يذكّره بنفسه. وهو لا يصدّق أن شخصاً يشبهه يمكن أن يتفوّق في أي مجال، سواء أكان علمياً أم أدبياً أم سياسياً. فيصبح بذلك إما موضوعاً للنقمة (لماذا هو؟) أو للغيرة (لماذا ليس أنا؟)".
وجد المفكر العربي عزمي بشارة نفسه في مواجهة القوى السلطوية في المنطقة العربية وأتباعهم من ذوي النفسية العبودية، بالإضافة إلى التحريض الصهيوني المعادي (بطبيعته) لكل نزعةٍ تحرّرية فعلية للعقل العربي، وهو ما يجعل الرجل يشكل استمراريةً لخط الفكر النهضوي الإصلاحي العربي، ومن طينة رموزه الكبار، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وابن أبي الضياف التونسي، مع اختلاف السياقات التاريخية، على الرغم من تشابه الإشكاليات المركزية التي يواجهها بشارة مع ما واجهه رواد حركة الإصلاح العربية، أعني معضلة الحكم المطلق، والرغبة في تحرير العقل العربي من سجونه وأوهامه. وفي النهاية، الحركة التاريخية والتحركات الشعبية هي التي ستنتصر لهذا الفكر التنويري، على الرغم من كل الدعايات الإعلامية الكاذبة والكتابات البائسة التي يُدبّجها أبواق الطغيان.
وبعيدا عن هذه التصوّرات الساذجة، والتي تدل على ضحالة أصحابها فكريا وسياسيا، بل وجفاف المخيال عندهم في صناعة أوهام قابلة للتصديق، ينبغي الإقرار أن عزمي بشارة قد مثّل فعلا "عقدة" أنظمة الاستبداد العربي، ولا يتعلق الأمر هنا بنظرية المؤامرة الممجوجة، وإنما من خلال الدور التنويري الذي قام به الرجل. ففي مختلف مراحل نشاطه السياسي والفكري، مثّل مصدر إزعاج حقيقي لكل التوجهات السلطوية، سواء في شكلها الاستعماري الإحلالي، كما في النموذج الصهيوني، أو بصورتها الاستبدادية السلطوية، كما الحال مع أنظمة الطغيان العربي.
وتكمن مصادر قوة الفكر السياسي لعزمي بشارة في طابعه الإشكالي بالذات، فالرجل علماني، ولكنه لا يعادي التوجهات الدينية، ولا يطالب باستئصالها. وهو ثائر تقدمي، ولكنه يتعامل
شكّل نقد عزمي بشارة القوي والمُركّز للعقل الاستبدادي مدخلا أساسيا لفهم أسباب الهجوم عليه، ففي كتاباتٍ كثيرة له كان واضحا أن هذا المفكر يحاول تجذير فكرة الحرية والممارسة الديمقراطية في العقلية العربية، ما يعني ضرب المرتكزات التي قامت عليها منظومة الاستبداد العربي، وترسّخت طوال عقود من الضخ الإعلامي والتلاعب بالعقول. وليس سهلا التبشير بفكر تنويري، في ظل ذهنية استبدادية طاغية على المنطقة العربية، تحاول أن تجد لنفسها مبرّرات من التراث، ومن الممارسات السياسية، بالإضافة إلى ما تلقّاه من دعم خارجي، يعتبر الاستبداد حليفا لا غنى عنه.
ففي نقده طبائع الاستبداد، يؤكد بشارة أن المستبدين وأنصارهم يتحجّجون في رفضهم تحقيق الحريات بـ "مخاطر الفوضى والفتن، ويؤكّدون الاستقرار كقيمة، ولكنهم يعنون في الواقع استقرار نظام حكمهم وقبول الناس بواقع الظلم. ليست ثمّة مفاضلة بين قيمة وأخرى هنا، بل ابتزاز المحكومين بالتهديد بالفوضى والفتن التي يخشاها الناس أكثر من خشيتهم من الاستبداد". فتركيز بشارة على بيان تهافت أطروحة الاستبداد ومرتكزاتها، والتي يتم تمريرها للإنسان العربي تحت مبررات الوطنية والأمن وعدم جاهزية المواطن العربي للديمقراطية، يعني في هذا التصور أن المطالبة بالحرية تعني الانزياح إلى العنف، غير أن بشارة ينسف هذه الرؤية، لأن فشل الخيار الديمقراطي مرحليا "ليس معناه أن الشعوب العربية ليست مستعدة بعد للديمقراطية، كما يحاول أنصار النظم الديكتاتورية أن يوهموا الناس، الوهم الذي ينمسخ إلى نبوءةٍ سيئة وحقيقةٍ ماثلة في حالة واحدة فقط، هي حالة استمرار الديكتاتور في الحكم؛ لأن الناس لا تصبح ديمقراطيةً تحت الاستبداد، ولو مضى عليها مائة عام. لذلك يبدو هامش الحرية تحت النظم الاستبدادية بمثابة إمكانية لميلاد خيار ديمقراطي".
ويعتبر عزمي بشارة تنظيرات أبواق السلطة التي تبرّر للاستبداد نمطا من العبودية الجديدة،
وجد المفكر العربي عزمي بشارة نفسه في مواجهة القوى السلطوية في المنطقة العربية وأتباعهم من ذوي النفسية العبودية، بالإضافة إلى التحريض الصهيوني المعادي (بطبيعته) لكل نزعةٍ تحرّرية فعلية للعقل العربي، وهو ما يجعل الرجل يشكل استمراريةً لخط الفكر النهضوي الإصلاحي العربي، ومن طينة رموزه الكبار، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وابن أبي الضياف التونسي، مع اختلاف السياقات التاريخية، على الرغم من تشابه الإشكاليات المركزية التي يواجهها بشارة مع ما واجهه رواد حركة الإصلاح العربية، أعني معضلة الحكم المطلق، والرغبة في تحرير العقل العربي من سجونه وأوهامه. وفي النهاية، الحركة التاريخية والتحركات الشعبية هي التي ستنتصر لهذا الفكر التنويري، على الرغم من كل الدعايات الإعلامية الكاذبة والكتابات البائسة التي يُدبّجها أبواق الطغيان.