قصة ناقصة في عيادة الأسنان
أخبرني روائي صديق أنه التقط معظم أفكار قصصه القصيرة ورواياته من قاعات الانتظار. وأن قصصاً كثيرة كتبها لا يعرف أبطالها بشكل شخصي، لكنه يعرف حكاياتهم الحقيقية مما رووه له في تلك القاعات التي يعشقها في المطارات والعيادات والقطارات والدوائر الحكومية.
حسناً.. يفعل كثيرون هذا، حتى لو لم يكونوا قصاصيين وروائيين يبحثون عن الأفكار الجديدة والواقعية، فالفضول تجاه صناديق القلوب المغلقة صفة إنسانية، يكاد يشترك فيها الجميع، ثم إن هذا يحدث عادة على سبيل تبادل الأحاديث مع الذين لا نعرفهم كنوع من الفضفضة العلاجية لكثير مما تزدحم به النفس البشرية، وتكاد تنفجر به، لو لم تفرغه على هذا النحو.
لست روائية، ولا أعتبر نفسي اجتماعية، بل أنني أنفر من كل مناسبةٍ أضطر فيها للحديث مع كثيرين في الوقت نفسه، والأهم من كل ذلك أنني لا أحب تبادل الأحاديث الشخصية الحميمة مع الغرباء الذين ألتقيهم أول مرة، كما يفعل كثيرون. لا أستسيغ أن أدلق أسراري الشخصية، حتى لو لم تكن مهمةً في أحضان عابري الطرق وسكان قاعات الانتظار في العيادات والطائرات وغيرها، والغريب أنني لا أحب سماع حكايات الآخرين وأسرارهم أيضاً الذين يتبرعون بسردها لي في تلك الظروف. لكنني لا أعرف كيف أتصرف مع من يفعل ذلك معي.
قبل أيام، كنت في عيادة الأسنان، ولأنني حضرت مبكراً جداً، وقبل موعدي بساعة ونصف تقريباً، فقد كان المجال خصباً لسماع حكايات شخصية عابرة كثيرة لبعض المنتظرات معي في القاعة نفسها. لم يفلح الآيباد الذي أحمله معي في كل مكان، وأعتبره مكتبتي الشخصية، بما يكتنزه من كتبٍ إلكترونيةٍ متنوعةٍ بصناعة حاجزٍ بيني وبين من حولي، كما كان يفعل عادةً، إذ أفتحه وأبدأ بالقراءة، فلا أكاد أنتبه لشيء سواه، حتى يحين موعدي مع الطبيب. عندما فتحت الآيباد، هذه المرة، اكتشفت أن بطاريته أشرفت على نهايتها، فلم تكد تمضي دقيقتان حتى اسودّت شاشته. وعندها لم أجد بداً من الاستجابة لحكاية جارتي في المقعد التي بدأتها بالشكوى من حرارة الجو، قبل أن تنتقل إلى الشكوى من غلاء الأسعار الذي بدأ مع اقتراب شهر رمضان المبارك، ولأنني اتفقت معها في كل ما قالت، تشجعت على المضي في أحاديث أكثر خصوصيةً من أحاديث الجو الحار والأسعار المرتفعة. طريقتها السريعة في الحكي مع نبرة صوتها الحميمة خفّفت من حالة الملل المعتادة التي أشعر بها عادةً تجاه مثل هذه الأحاديث المفروضة عليّ، وشيئاً فشيئاً بدأت المرأة التي كانت تقاربني في العمر تغوص في الأسرار الحميمة، وغالبها من النوع المأساوي عما حدث لها طوال حياتها، وحوّلها من حالٍ إلى حال، على طريق الطموحات القتيلة، والأماني التي لم تتحقق أبداً. شيء ما جذبني إلى حكايات تلك السيدة، حتى أنني تمنيت لو أن موعداً مع الطبيب لم يحن قبل أن أعرف بقية الحكاية الأخيرة التي بدأتها بدمعة، واعتذرت منها، وأنا أنسحب لأدخل غرفة الطبيب. كان الطبيب قد باشر عمله في إصلاح التقويم الذي أضعه على أسناني، عندما أعدت التفكير بالحكاية الدامعة للسيدة التي تركتها ورائي في العيادة. انتبهت إلى أنني لم أواسِها بكلمةٍ، ولم أسألها عن أي تفصيلةٍ، ولم أحاول مسح دمعتها السخية.. كم كنت قاسيةً، وأنا أستمع لحكاية أمٍ فقدت أبناءها الثلاثة، منذ ست سنوات، حيث غادروا البلاد بصحبة والدهم، بموافقتها كما قالت، ولم ترهم منذ ذلك الوقت برغبتها هي، كما فهمت منها. لم أسألها كيف ولماذا، ولا أي سؤال آخر، بل إنني لم أُشعرها، حتى بانتباهي لها، وهي تحكي وتبكي في موقفٍ لا تعرف أحداً من الجالسين حولها فيه.
عندما خرجت من غرفة الطبيب، كنت قد نويت التكفير عن غلطتي بطريقةٍ ما.. فتوجهت إلى مقعدها لأجدها قد غادرت المكان. في المساء، وجدتني أتناول مجموعة قصصية في مكتبتي للروائي الصديق الذي بدأت به هذه المقال. وبدأت القراءة. كنت أبحث فيها عن نهاية القصة الدامعة، لأربّت على كتف البطلة، أخيراً كما يبدو.