مصر: عنف السلطات يكسر الدول ويهدمها

14 مارس 2016
+ الخط -
تمتد ظاهرة عنف الدولة المصرية وتتسع تجاه مواطنيها، تتجاوز وقائعها العنف السياسي الموجه للسياسيين والنشطاء في المجال العام، ليس الهدف إماتة السياسة وحسب، فهي تستهدف إخافة المجتمع ككل، وشل حركته. لذا، ليس شرطاً أن تكون معارضاً، لكي تتعرّض لعنف السلطة، بداية من الاختفاء القسري والاحتجاز غير القانوني والسجن، وصولاً إلى القتل. واتخذت ظاهرة عنف الدولة سماتٍ جديدة، يمارس العنف بعيداً عن مسرحه التقليدي، مقار أقسام الشرطة وجهاز مباحث أمن الدولة (الأمن السياسي). أما اليوم، فقد أضحت الشوارع والمقاهي والأسواق، وغيرها من تجمعات بشرية، مجالاً لعنف الدولة، لم تعد هناك حاجة لإخفاء جرائم العنف في مقار الأمن. وهذا الوضع دال على مدى سطوة أجهزة الأمن، أضف إلى ذلك أن ظواهر العنف الشرطي أصبحت شبه يومية. ومن خلال السمتين السابقتين، يمكن القول إن عنف أجهزة الأمن أصبح سياسة ممنهجة لإشاعة ثقافة الخوف، وليست كما يحلو الترويج أنها نتاج أخطاء هنا أو هناك، أو نتيجة ما تربت عليه الأجهزة الأمنية في عصر حسني مبارك، أن يديها مطلوقة، تفعل ما تريد، وليس أدل على ذلك التاريخ الطويل من التبرئات لمن قتلوا وعذبوا مواطنين قبل الثورة أو بعدها، يسخّر النظام أدواته القانونية، لحماية ممارسات العنف الشرطي، فمحاكمة (وإدانة) ضباط وأفراد الأمن الذين مارسوا العنف والقتل يعنى، في الذهنية البوليسية، أن أهم أسس الحكم سوف تتساقط. ترى دولة القمع أن مبدأ تطبيق العدالة ضد من أجرم سيحد من سلطتها.
وقد زادت ممارسات الأمن المصري، أخيراً، في خطف النشطاء في المجال العام، سواء كانوا نقابيين أو أعضاء أحزاب أو حركات شبابية ثورية. تم حبس المصورة الصحافية، إسراء الطويل، التي سبق واعتدى عليها الأمن في 25 يناير/كانون الأول 2014، فكان نصيبها رصاصة استقرّت في العمود الفقري، فأعاقتها عن الحركة، لم تصب الرصاصة الجسد وحسب، فستصاب إسراء التي في بداية العشرين بندوبٍ نفسية، ووجعٍ في القلب، كلما رأت أسلاك سجن الجسد وسجن السجان الذي ينتظرها، بتهمة قلب نظام الحكم. أكمل فتى التيشيرت محمود محمد عامه الثاني في الحبس، لا لشيء، إلا أنه ارتدى تيشيرت كتب عليه "وطن بلا تعذيب". مسؤول لجنة الحريات في نقابة الأطباء محبوس بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم. واتهم آخرون بالانتماء إلى تنظيم وهمي، تحت مسمى 25 يناير، والأحراز هي صور للمتهمين في ميدان التحرير.

هذه نماذج لمن يقبعون خلف الجدران، نتلمس بشأنها كيف تتكامل عناصر القمع باسم القانون مع أدوات الدولة البوليسية، فالتشريعات والبناء القانوني يسمحان بتبرئة القتلة ويحبسان أبناء الثورة. ترتبط أجهزة جمع الأدلة بجهاز الأمن، وكذلك ترتبط دوائر عديدة من القضاء بدولة البوليس. ليست مصادفة أن يكون مقر وزارة العدل بجوار مقر وزارة الداخلية، وليس غريباً أن يكون وزير العدل المصري، أحمد الزند، من أشد عناصر دولة مبارك استبداداً باستخدام القانون. لم يستغرب المتابعون تصريحاته عن معاقبة ذوي القرابة من أي متهم في أعمال عنف، وهو الاقتراح الذي تجاوز حتى منطق التشريع وقبوله للتطبيق، فلا عقوبة بلا تهمة.
ليس استخدام أقصى درجات العنف أمراً مجانياً، وليس سوء تقدير للدولة، وفشلاً منها في إدارة ملفاتها الأمنية، بطريقة أكثر حنكة، فهو أمر مقصود لإخافة الكل وحصار المجتمع، وإرعاب الصامتين، قبل من يمتلكوا ألسنة النقد. ومن هذا المنطلق، وبتحليل مجمل حوادث العنف ضد السياسيين، أو المواطنين غير الفاعلين في المجال العام، يمكن الجزم بأن الشعب المصري يتعرّض لحكم بوليسي، وأن سلطة الدولة تمتد لكل مناحي النشاط العام، وتحاصر وتراقب حتى المؤيدين والتابعين لها، وأن ما يصدر عن السلطة من بث دعاوى المؤامرات الخارجية التي تحاك على مصر هو أرضية لتبرير هذه السلطوية. وتؤكد خطابات السلطة على هذا الدور مستخدمة الإرهاب، أن مؤيدي السلطة لا يرون في جهاز الأمن سوى "تضحيات وجهود رجال الشرطة الشرفاء الذين يسهرون على تحقيق الأمان والاستقرار لمصر وشعبها، ويساهمون في تحقيق نهضتها وتقدمها"، بل ترى السلطة أن أجهزة الأمن تلعب دوراً في التنمية يتمثل في "عطاء رجال الشرطة في مجال تقديم الخدمات المدنية للمواطنين، وتيسير مختلف متطلباتهم الحياتية". وهنا، تتضح رؤية السلطة الحاكمة ورغباتها في الهيمنة، عبر إبدال مؤسسات الأمن بمؤسسات أخرى عجزت عن القيام بدورها، لتحل الدولة البوليسية وأجهزتها بديلاً ونفياً للدولة نفسها، وتصبح دولة البوليس هي من تقدم الخدمات وتحصل مواردها، وتلعب دوراً في تنظيم المجتمع، بل والتدخل في خلافات الأحزاب والنقابات، أو التوسط ما بين رجال الأعمال والعمال، حين يندلع إضراب أو اعتصام.
ويرتبط عنف الأجهزة الأمنية هنا، في جانب منها، بالرغبة في توسيع دورها، وإحساس قادتها بأنهم وحدهم الحاكمون للدولة، ومن يسيرون أموره، ويمتلكون صكوك الوطنية، ولا دور لغيرهم من مؤسسات أخرى للدولة نفسها، وهذا هدم حقيقي لمؤسسات الدولة، ونفي لها، ومحاولة لاتخاذ أكبر مساحة ممكنة من السيطرة على كل الأنشطة، ومسك كل خيوط اللعبة في يدها. ولا يمكن لأي عاقل داخل الدولة أو خارجها أن يقبل المساحة المتروكة للجهاز الأمني في التعامل مع المواطنين وغض الطرف عن ممارستها وتغولها في القيام بأدوار أخرى، غير أدوارها التقليدية، لأن القبول بذلك يعنى انهياراً حقيقياً لمقومات قيام دولة.
وفي هذا الشأن، لا يمكن أيضاً لعاقل يسعى إلى حل أزمة مصر، بغض النظر عمّن سيحكمها مستقبلاً، أن يقبل بهذه الأوضاع، وأن يُتّخذ الشهداء من الجنود والضباط نتيجة حوادث إرهابية إطاراً لمزايدةٍ على وطنية المعارضين لهذا النمط السلطوي، ويستخدم الشهداء ستاراً لفرض هيمنة الحكم.
أدت كل تجارب السلطات التي مارست العنف والقمع ضد مواطنيها، في النهاية، إلى هدم الدول وتفريغها من قواها السياسية والاجتماعية، وهذا يحدثُ فراغاً يسمح بنشوب صراعاتٍ ذات طابع طائفي وديني وعرقي ومناطقي. ويدفع غياب الديمقراطية، وغياب إدارة الصراع الاجتماعي والسياسي بشكل سلمي، الشعوب إلى الفوضى والعنف، ويهدم الدول. ويتأتى إسقاط الدول أو فشلها من داخلها أحياناً، حين تحكم قوى تريد فرض هيمنتها، وتفرض الاختلاف والتنوع. وتدل كل تجارب المنطقة المأساوية والمحزنة على أن الاستبداد والفساد والقمع الممنهج كان أحد الأسباب الرئيسية في فشل الدول وسقوطها إلى منحدر الفوضى. وليس هذا المصير في صالح مصر، ولا في صالح المنطقة كلها.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".