رسالة إلى غدير أبو رجيلة

15 يوليو 2015

عام على العدوان الثالث على غزة (يوليو/2015/Getty)

+ الخط -
عزيزتي غدير: 
وحده كرسيك المتحرك، كان الشاهد على الجريمة. ليتني أستطيع استنطاقه، لأعرف منه كيف امتلك جنود الاحتلال الإسرائيلي الجرأة على إعدامك وتصفيتك بدم بارد، من دون أن يهتز لهم طرف، أو تذرف أعينهم دمعة على فتاة مسكينة، معاقة، تعاني من شلل دماغي، اسمها غدير أبو رجيلة.
أتذكرين، يا غدير، ذلك اليوم المشؤوم، من أيام الحرب الإسرائيلية على غزة، حينما اجتاح جيشهم بلدتك الحدودية، خزاعة، وعاثوا فيها قتلا وتدميرا. يومها، قررت أسرتك الهرب إلى مناطق أكثر أمنا، شأنها في ذلك شأن كل السكان.
دفع شقيقك بلال الكرسي المتحرك، وسط القصف، آملا الوصول إلى مكان آمن، يحميك من الموت. لكن القذائف فرقت شملكم، ووجدِت نفسك وحيدة في وجه جنود أشقياء، لا يعرفون معنى الرحمة، ولا يقيمون وزناً لأية قيمة إنسانية.
أمك المسكينة أخذت تصرخ باحثة عنك، وأخوك غسان بكى قهرا، لا تعتبي عليهم، فقد أصيب شقيقك بلال الذي كان يدفع كرسيك، وتفرقت عائلتك بين مدارس الإيواء، والمستشفيات، ومنازل الأقارب.
لا أعرف ماذا كان شعورك وقتها، لكني سأخمّن أنك شعرتِ برعب شديد، فقد كنت وحيدة، عزلاء، بالإضافة إلى كونك فتاة صغيرة، بائسة، ولدت معاقة، وتعانين من شلل يمنعك من الحركة، ويجعلك تعتمدين على الآخرين بشكل كامل. لكنك ربما استعدت رباطة جأشك للحظات، وتفاءلت بأن الجيش سيفرج عنك، أليس كذلك؟
ولربما اعتقدت أنه سيستدعي طاقما من "الصليب الأحمر"، لكي ينقلك من هذا المكان الخطر كي تلتحقي بأهلك، هذا مؤكد، فماذا يريد الجيش من فتاة معاقة؟ وأي خطر يمكن أن تشكله عليهم؟
خاب فألك، يا غدير، فقد قرر أولئك الجلاوزة قتلك، ولربما اعتبروك مادة للتسلية، وجعلوا منك، ومن كرسيك المتحرك شاخصا للرماية، من يدري؟
يقولون إن الإنسان قبل موته يستدعي ذكرياته، ويمر شريط حياته سريعاً أمام ناظريه، فماذا رأيت فيه يا غدير؟ هل رأيت في حياتك شيئا سوى الشقاء، والألم جراء المرض، وضنك الحياة بسبب الفقر والحصار، وها هي النهاية تأتي أشد بؤساً.
أهلك، يا غدير، لم يتوقفوا عن محاولة حثّ "الصليب الأحمر" على التدخل لإنقاذك. لكن، من دون جدوى، فلست وحدك الملقاة في أتون "المحرقة"، فكل سكان غزة كانوا وقودا لها، ولم يكن جيش الاحتلال ليستجيب لأية مطالب إنسانية من أحد.
وحدها الهدنة التي أعلنت مدة 72 ساعة، يوم الثاني من أغسطس/آب 2014، كانت الكفيلة بالعثور عليك يا غدير. ربما لحسن حظك أنك كنت مُقعدة، فلقد دلهم على جثمانك الممزق والمتحلل كرسيك المتحرك الذي ظل صامداً بجوارك، لربما كان يبكيكِ.
يومها، عثر عليك شقيقك غسان، فجلس إلى جوارك، غير مبال بأي شيء، محتضنا إياك، وذارفا عليك الدمع، كما بكى عليك جيرانك كثيراً، فما كانوا يتخيلون أن يكون هذا مصيرك.
لم تكن قصتك المأساة الوحيدة التي ضربت بلدتك، يا غدير، لكنك كنت إحدى مشاهد المأساة فقط، فقد دمر جيش الاحتلال خزاعة عن بكرة أبيها، وانتشرت رائحة الموت في كل مكان، متسللة من تحت الأنقاض وركام المنازل.
عزيزتي غدير: قبل إنهاء رسالتي، يؤسفني أن أخبرك أنه على الرغم من مرور عام على انتهاء الحرب، إلا أن إسرائيل تمكنت، كالعادة، من الإفلات من العقاب، فإعدام معاقة مثلك، وقتل أكثر من ألفي شخص آخرين، وجرح نحو 10 آلاف إنسان، وتشريد أكثر من مائة ألف غيرهم، وتدمير أحياء وبلدات بأكملها، ليس كافيا لإقناع المجتمع الدولي بأن جرائم حرب قد ارتكبت.
لا تحزني، يا غدير، وارقدي بسلام، ولتبقَ روحك حائمة في سماء غزة، فلقد ارتاح جسدك من القيود التي كانت تكبله، والسلام ختام.
EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة