سيرة ليست ذاتية

08 ديسمبر 2015
+ الخط -
صُدمت، وأنا أحاول استرجاع ذكريات العمر، بمناسبة عيد ميلادي، بندرة المشاهد "الشخصية" فيها، وطغيان ذكريات أخرى، جعلت من سيرتي الذاتية سرداً لحكاية حقبات من حياة مدينتي غزة، أكثر من كونها تعبيراً عن "ذاتيتي"، و"الأنا" الخاصة بي.
كانت البداية من نهاية عام 1976، في حي الرمال القريب من شاطئ البحر. كانت غزة هادئةً وصغيرة، وغير مزدحمة، وكنا نتمكّن من معاينة زرقة المياه من سطح منزلنا الذي لا يزيد عن طابقين. كنا أطفالاً محظوظين، كان هناك شاطئ حقيقي، نسبح ونلهو فيه، بعد أن تآكل اليوم، لأسباب بيئيةٍ، بفعل بناء ميناء غزة القريب.
وفي الشوارع، كنا نعاين نوعين من السيارات: "بيجو 404" البيضاء تملأ الطرقات، وجيبات الجيش الإسرائيلي الداكنة اللون. وكان ناس كثيرون يعملون في إسرائيل، خصوصاَ في البناء والزراعة، ويحصلون على أجور عالية. وكانت المدارس تنظم رحلة سنوية، في بداية أبريل/ نيسان إلى مدن فلسطين في الداخل المحتل عام 1948، ولم أشارك في أيّ منها، لعدم مقدرتي على دفع "الرسوم".
لم أكن ألمس "التدين" كثيراً في غزة، فقد كانت المخدرات منتشرة، والسفور منتشراً، والأعراس مختلطة، ولم يكن غريبا أن ترى بعضهم "يفطرون" في نهار رمضان.
غزة "الثائرة"، في فترة الطفولة الأولى (1976-1987) كانت هادئة، وليس أدل على ذلك مشهد التاجر اليهودي الذي كان يتجول بمفرده بسيارته "الفوكسفاجن السلحفاة"، عارضاً بضاعته من الموكيت والسجاد. ومع الهدوء الظاهري، أذكر أن "الروح الوطنية" كانت متأججة، وكنت ألمس هذا في أحاديث الناس، وألعاب الأطفال، فقد كان شائعاً حينما تسأل أي طفل: ماذا تريد أن تصبح حينما تكبر؟ فيجيبك "أريد أن أصبح فدائياً". فجأة، انقلبت حياتنا، وبدأت مرحلة مختلفة. اندلعت الانتفاضة الكبرى (1987-1994)، وانتشرت. كنت شاهداً على انطلاقها، فقد كان منزلنا قريباً جداً من مستشفى الشفاء الذي كان مركزاً أساسياً للمواجهات بين الجيش والشبان، وكان يستقبل "الشهداء والجرحى".
تأثر جيلنا كثيراً بالانتفاضة، التي غيّرت كثيراً من فهمنا ووعينا للحياة، وأثّرت فينا أيضاً، فقد تعطلت مدارسنا التي أغلقها الجيش الإسرائيلي فترات طويلة، ما أثّر بشكل خطير على مستوانا التدريسي، ودفع أسرنا إلى تعويض ذلك ذاتياً. كانت الانتفاضة زلزالاً حقيقياً، غيّر كل شيء، فقد انتشر التدين، وشاعت الروح الوطنية، وزاد اهتمام الناس بالسياسة والأحزاب والتنظيمات.
أعوام كاملة، من طفولتنا قضيناها في أجواء الانتفاضة، حيث الخوف والقلق، ومنع التجوال فتراتٍ قد تصل إلى أكثر من 40 يوماً متواصلة. ولا أستطيع أن أحصي الركلات والصفعات التي تلقيتها من الجنود الإسرائيليين.
انتهت الانتفاضة عام 1994، بإقامة السلطة الفلسطينية عقب توقيع اتفاقية أوسلو، وكانت فترةً مهمة، حيث شهدنا جيش الاحتلال يغادر غزة، (وإنْ بقي يحاصرها). كنت قد أنهيت الثانوية، ودخلت قسم الصحافة والإعلام في الجامعة، ولعل من حسن حظي أنني تمكّنت من إنهاء الدراسة في أجواء من الهدوء.
ولعل أكثر ما علق بذاكرتي تعزيز الانقسام الفلسطيني الداخلي، بين مؤيدٍ للتسوية السياسية مع إسرائيل ورافض لها. وازدياد أعداد السكان بشكل كبير، بفعل عودة عشرات الآلاف من النازحين، والمغتربين، فتغيرت معالم المدينة.
وبعد إكمال دراستي الجامعية بعامين، اندلعت الانتفاضة الثانية، ووجدتني، بحكم عملي صحفياً، محترقاً في أتونها، مراقباً وناقلاً للأحداث. كانت مختلفة عن الأولى، فقد ظهر السلوك الإسرائيلي فيها عنيفاً للغاية، وتمثل بسقوط عشرات الآلاف من الجرحى والشهداء.
المرحلة التالية التي أثرت في حياة جيلنا، فرض الحصار المشدد على قطاع غزة، منتصف 2006، بعد الاقتتال المسلح بين حركتي فتح وحماس، والذي انتهى بسيطرة الأخيرة على القطاع. وتخللت ذلك أيضاً ثلاث حروب، عاصرتها، وعشت تفاصيلها مواطناً وصحافياً مطالباً بتغطيتها.
تمرّ أمامي مشاهد لا تحصى، من جثث الشهداء، والأشلاء، والجرحى، والمنازل المدمرة، والسيارات المحترقة، وبكاء النساء، وهتاف الرجال، وصراخ الأطفال، وانفعالات الشبان. وحتى ساعة كتابة هذه السطور، ما زلت أبحث عن تفاصيل خاصة، في سيرتي غير الذاتية، فلا أجد، ولا أعتقد أني سأجد فيما تبقى من حياتي.

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة