دموع صاحبة الجلالة

30 ابريل 2016
+ الخط -
شعرت أنه سيبكي، بعد أن أكملت نصيحتي: "الصحافة لا تناسبك...عليك بالتحويل لتخصص آخر".
أجاب بنبرة صوت، توحي بإصابته بتوتر شديد: "لكني أعشق الصحافة... غير ممكن، لا يمكن أن أتخيل نفسي إلا صحفيا... أرجوك...إذا كان أسلوبي ضعيفاً، سأعمل على تطوير نفسي، صدقني".
رفعت الورقة التي كتب عليها مقاله "التجريبي"، وقلت: "لكنك على خصومة كبيرة مع اللغة، على الرغم من أن تخصصك في الصحافة المكتوبة تحديدا، أنت لا تعرف حتى قواعد الإملاء... انظر... هذا حرف (إنّ) الناسخ، أنت تضع له ألفا في آخره بدل الشدة، ليصبح (إنا)... ليس هذا فحسب، فأسلوبك في الكتابة غير مفهوم، الصحفي في النهاية سيعمل كاتبا، فكيف ستكتب؟".
قاطعني منفعلا: "قلت لك سأطور نفسي..".
أجبته: "أخشى أن الوقت قد فات يا عزيزي، فماذا ستطور بالضبط؟ الإملاء؟ النحو؟ الأسلوب؟ أنا غير قادر على فهم شيء مما كتبت...لكن لا تقلق، فمعدلك في الثانوية العامة يؤكد أنك ذكي، وتستطيع أن تنجح في تخصص آخر".
كما توقعت، لم يعجبه حديثي، فاحتج واقفا، وختم الحديث قائلاً: "على العموم، شكراً على نصيحتك، لكني أخذت قراري منذ كنت طفلا، ولن يستطيع أحد منعي من تحقيق حلمي".
بعد مغادرته، لم أغضب من أسلوبه، بقدر ما شعرت بالشفقة تجاهه، بل أحسست بالذنب، على الرغم من يقيني أني لم أخطئ، فمن الواضح أني تسببت له بأذى نفسي عميق، بمصارحتي إياه بحقيقة قدراته في مجال الصحافة.
لقد شعرت بأني قتلت أحلامه التي طالما داعبت خياله، بالولوج إلى بلاط صاحبة الجلالة، واقتحام عالم "الشهرة"، والأضواء، وربما "الثروة".
فتخصص "الصحافة"، يعد لهذا الشاب، ولكثيرين من نظرائه، من المجالات المثيرة والجذابة، لكنهم، يجهلون طبيعته، ويعتقدون أنه لا يختلف عن تخصصاتٍ كثيرة، كالطب والهندسة والمحاماة، والتجارة، التي بالإمكان تعلمها في الجامعات.
ومما يساهم في زيادة الرغبة في امتهان الصحافة، في عصرنا الحالي، التطور الكبير الذي طرأ عليها، وانتشار وسائل الإعلام "التقليدية"، والحديثة.
ويبدو أن جامعات ومعاهد كثيرة أدركت هذا الأمر، فسارعت إلى اقتناص الفرصة، عبر افتتاح أقسام لتدريس الصحافة بشكل "تجاري" بحت، من دون وجود أي اختبارات "قبول"، بل تعمل بعضها على تضليلهم، مستغلين جهل الشباب بحقيقة أن الصحافة تخصص يعتمد على الموهبة، وهو شبيه بتخصصات الفنون الجميلة، كالرسم والنحت، أو ربما موهبة الغناء والتمثيل، وليس في وسع الجميع اكتساب مهاراتها عبر التعليم فقط.
وليس أدل على ذلك، من أن كثيرين من كبار الصحفيين الناجحين لم يدرسوا الصحافة في الجامعات، بل هم من خريجي تخصصات أخرى، لا علاقة لها بالإعلام، كالطب والتجارة.
والنتيجة في المحصلة، تخريج جيوش من حاملي الشهادات الجامعية في تخصص الصحافة والإعلام، من غير القادرين على كتابة "خبر" بسيط، على شاكلة أخبار "العلاقات العامة"، والمغامرة بمستقبل أجيال من الشباب في دراسة تخصصٍ لا يستطيعون العمل في مجاله مطلقا، أو تخريج صحفيين ضعفاء، يسيئون للمهنة، ويهوون بها في قاع سحيق.
أجزم أن بعض الأشخاص الذين ألقى بهم حظهم العاثر في هذا التخصص، ولم ينجحوا لغياب "الموهبة"؛ كانوا قادرين على التفوق والتميز في أعتى التخصصات الدقيقة، كالطب أو الهندسة أو الفيزياء النووية، لو كانوا قد أحسنوا الاختيار.
يبدأ علاج هذه الإشكالية، في تصوري، من خلال توعية طلبة المدارس، والأهالي، بخصائص مهنة الصحافة، قبل التورط في دراستها، مع التأكيد، هنا، على أن الموهبة أيضا لا تكفي، فالصحافة تحتاج إلى ثقافة واسعة، وحب للاطلاع، جلد وهمة عالية، فالصحافة هي في أحد تعريفاتها: "مهنة البحث عن المتاعب".
على الهامش: "إذا رأيتم صحفيا ضعيفا، أرجوكم: لا تسخروا منه، فقد يكون ضحية الجهل، ومؤسسات أكاديمية، تمتهن المتاجرة بمستقبل الأجيال".
دلالات
EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة