السوسيولوجيا مدخلاً للتنوير

07 ديسمبر 2015

برحيل المرنيسي فقدت السوسيولوجيا أحد رموزها(صورة لدي غوي)

+ الخط -
بوفاة عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي (1940- 2015)، فقدت السوسيولوجيا في المغرب أحد رموزها الأساسية، والأكثر حضورا وإشعاعاً في العقود الثلاثة الأخيرة. تركت الراحلة منجزاً علمياً غزيراً قُدر لمعظمه أن يُترجم إلى عدة لغات، كما حظيت بتقدير دولي لافت على أكثر من مستوى. وعلى الرغم من انحدارها من عائلة فاسية محافظة، استطاعت أن تشق لنفسها مساراً دراسياً وأكاديمياً مرموقاً، بدأته في المغرب، وأنهته في فرنسا والولايات المتحدة، ما انعكس على مجمل كتاباتها التي تميزت بالثراء والتنوع في العدة المعرفية والمنهجية، وانفتاح على العلوم الإنسانية، بمختلف تخصصاتها، وهي بذلك أحد الأصوات العميقة والمجددة في المبحث السوسيولوجي في المغرب، إلى جانب الراحلين بول باسكون ومحمد جسوس وعبد الكبير الخطيبي، وغيرهم ممن أسهموا، بشكل كبير، في دفع هذا المبحث إلى مختبر الواقع المغربي، بكل قضاياه وأسئلته الحارقة.
لم تحتفظ المرنيسي بمنجزها السوسيولوجي على ضفاف التنظير المتخشب، بل عبرت به في هدوء ليشتبك بالواقع، متسلحةً بخلفية علمية ومعرفية، تتجاور داخلها التخصصات والمناهج والرؤى في توليفةٍ بديعةٍ ومنتجةٍ ومنفتحة، الأمر الذي جعلها تُساهم في تأسيس وبناء خطاب سوسيولوجي مغربي أكثر انحيازا للمعيش. مثلت كتاباتها حول قضايا المرأة والجنس والدين والسلطة والحداثة أفقاً مغايراً انحاز، منذ البداية، لخيار التنوير، ما جعل هذا الكتابات تتحول إلى أحد الروافد الأساسية والحيوية في مرجعية الحركة النسوية المغربية، والعربية بوجه عام، فلم تبق أسيرة مقولات الخطاب النسوي العربي الكلاسيكي الذي ظل يعتبر الرجل مسؤولاً عن الوضعية المزرية للمرأة العربية، فعلى الرغم من أن مساحة كبيرة من انشغالاتها العلمية انصب على قضايا هذه المرأة، إلا أن ذلك التحم بمشروع فكري، يستند إلى رؤية متسقة ومتكاملة، تأخذ بالاعتبار الشرط التاريخي المعقد لهذه المرأة في علاقتها بالسلطة والمجتمع، على حد سواء.
في السياق نفسه، فتحت المرنيسي أمام هذا الخطاب دروباً أخرى، بجرأتها التي تجلت في
اقتحامها قارة التراث العربي الملغومة، واختيارها اللامفكر فيه والهامشيَّ والمغيبَ فيها. وهنا يمكن اعتبار كتابها "الحريم السياسي .. النبي والنساء" أحد العناوين البارزة لذلك، فهي تقر أن المشكلة النسوية في العالم العربي سياسية في الأصل، بمعنى أنها نتاج علاقات سلطة تبلورت وتشكلت، على امتداد التاريخ الإسلامي، ثم تسللت، بفعل القهر والاستبداد، إلى دائرة المسلمات الاجتماعية والثقافية التي لا تقبل المراجعة والمساءلة. لكنها تؤسس طرحها هذا بناء على مواكبة تاريخية واستقصائية "للحريم السياسي المتمرد" الذي عارض الحجاب وتعددَ الزوجات وملازمةَ المرأة المسلمة البيت وغيابَ المساواة بين الجنسين، ودافع، في المقابل، عن الحقوق الكاملة لهذه المرأة. وهنا، تتوغل صاحبة "ما وراء الحجاب" في منطقة وعرة للغاية، بمساءلتها النقدية بعض الجوانب المتعلقة بتأويل الأحاديث النبوية ذات الصلة. وهي في ذلك، لا تنشغل بوقائع التاريخ، في حد ذاتها، بقدر ما تبحث فيها عن كيفية إعادة بناء علاقة المرأة العربية المعاصرة بمجتمعها، ضمن أفقٍ يحرّرها من القيود الوافدة من تأويل ضيق للتراث، ويخولها التمتع بكل حقوقها، ويفتح أمامها الفضاء العمومي، باعتبارها إنسانة ومواطنة. على هذا الأساس، يجب أن يُنظر إلى ممارسة النساء السياسة في السياق الإسلامي باعتبارها جزءاً من عملية الصراع الاجتماعي والسياسي، بمعنى أنهن كُنَّ ضمن التركيبة التي تنتج هذا الصراع وتوجهه، وإذا كان التاريخ الرسمي استطاع أن يحجب إشعاع نساءٍ كثيرات، فإن المرنيسي آمنت أن ذلك يدخل في إطار تاريخ آخر منسي، يحفه غموض كثير، وأنه لا بد من الكشف عنه، وتبيان العلامات المضيئة فيه.
في كتابها "هل أنتم محصنون ضد الحريم؟" تسائل فاطمة المرنيسي الخطاب الغربي حول المرأة، وتكشف مكامن الخلل المختلفة فيه، فالحرية التي تعتقد النساء في الغرب أنهن يتمتعن بها، ما هي، في الواقع، إلا عبودية مقنعة، تتخذ أشكالا وصيغا متعددة، أبرزها تلك الرؤية المعيارية والجمالية المقننة لجسد المرأة، ما يجعل الأخيرة دائماً في وضع استلاب ثقافي واجتماعي وسياسي. ويظل اللافتُ، في هذا الكتاب، تطرقه لموضوعة الحريم بكل ما تستبطنه من استيهامات وإيحاءات، شكلت مصدر إلهام لفناني الغرب، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في هذا الصدد، تطرح الراحلة ما يمكن تسميتها ديمقراطية الحريم التي تُساوي بين الشرق والغرب، فالحريم لا يخص ثقافة دون غيرها، بل يكاد يكون إرثاً مشتركاً بين الغرب والشرق، فالسحر الذي تمارسه المرأة الجارية الخانعة على الرجل الغربي (الذي يدعي العلمانيةَ والنسويةَ والانحيازَ لحقوق المرأة) لا يزال حاضراً بأشكال متعددة.
يستدعي المشروع الفكري الذي تركته فاطمة المرنيسي إشكالات وقضايا كثيرة تظل، في مجملها، على صلة دائمة بالواقع ومتغيراته. من هنا، يظل أهم ما ميز هذا المشروع في خطوطه الكبرى انخراطه الواعي والمنتج في معركة التنوير التي لا تقتصر على واجهة بعينها.