عن صعود اليمين المُتطرّف في الانتخابات الأوروبية
كرّست الانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي جرت الأسبوع الماضي، صعود اليمين المُتطرّف، في ما يبدو تحوّلاً عميقاً تشهده أوروبـا بالتوازي مع ما يحدُث في محيطيها الإقليمي والدولي. ولا يعود هذا الصعود إلى انحسار الخطاب الحزبي والسياسي التقليدي فقط، مُمثّلاً في الأحزاب الليبرالية واليسارية المُعتدلة، بقدر ما يعود، أيضاً، إلى مُتغيّراتٍ ثقافية ومجتمعية جيوسياسية تشهدها أوروبا، من دون أن تكون حكوماتها ونُخَبُها قادرةً على إدارتها بأقلّ التكاليف.
تصدّر اليمينُ المُتطرّف نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي في إيطاليا وفرنسا والنمسا، وحلَّ ثانياً في هولندا وألمانيا، ما اعتُبر زلزالاً سياسياً، لا سيّما في فرنسا التي تُعدّ أحد أقطاب الاتحاد الأوروبي، ومختبراً رئيساً في قياس مُؤشّرات التحوّل السياسي والاجتماعي في دوله بشكل عام. وكان ذلك لافتاً في إقدام الرئيس إيمانويل ماكرون على حلّ الجمعية الوطنية ودعوته لإجراء انتخابات تشريعية مُبكّرة، في مسعى لإعادة التوازن إلى السياسة الفرنسية، بجعل انتخابات 30 يونيو/ حزيران الحالي فرصةً أمام الناخبين الفرنسيين لتجنيب البلاد كارثة وصول اليمين المُتطرّف إلى السلطة.
هناك عوامل خلف صعود تشكيلات اليمين المُتطرّف في الانتخابات الأوروبية، أبرزها قضايا الهُويّة والهجرة؛ فقد أخفقت أحزاب اليمين واليسار المحافظة والمعتدلة والديمقراطية في إيجاد حلول عملية، تنصبّ، من جهة، في طمأنة المجتمعات الأوروبية إلى أنّ المهاجرين لا يشكّلون مصدرَ تهديدٍ هُويّاتي وثقافي لها، ومن جهة أخرى، تعمل على سنّ سياسات هُويّةٍ تشجّع المهاجرين، خاصّة العرب والمسلمين، على إنجاز تسويات غير مُكلفة بين انتماءاتهم الدينية والثقافية الأصلية، وانتماءاتهم الوطنية، بما يساعد على تشكّل تركيبات مجتمعية جديدة قائمة على قيم التنوّع والتعايش والتسامح.
تدفع معظم المجتمعات الأوروبية، اليوم، ثمن عجز النُخَب التقليدية عن التصدّي لمشكلات الهجرة واللجوء بما يلزم من الوضوح والجدّية، ما صبَّ في النهاية في مصلحة اليمين المُتطرّف، الذي وجدت تشكيلاتُه في ذلك فرصة لتوسيع قواعدها الاجتماعية والانتخابية.
من الناحية الجيوسياسية، كانت الحرب الروسية الأوكرانية عاملاً رئيساً في اتساع قاعدة المُصوّتين لأحزاب اليمين المُتطرّف، فقد أوجدت هذه الحرب بيئة جديدة، تمثّلت في التحدّيات الأمنية والسياسية التي باتت تواجهها أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وارتهان قادة الاتحاد الأوروبي للحسابات الأميركية في هذا الصدد، وافتقادهم منظوراً أوروبياً مستقلّاً للأزمة في أبعادها الجيوسياسية. تُضاف إلى ذلك، الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي رافقت هذه الحرب داخل الدول الأوروبية، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخّم والبطالة. وقد ساهم ذلك في تكريس حالةٍ من عدم اليقين تعيشها المجتمعات الأوروبية، على الأقلّ منذ تفشّي جائحة كورونا (2020)، وما خلّفته من تداعيات على القطاعات الاجتماعية (الصحة، الشغل، التعليم...). وتعيد هذه الحالة إلى الأذهان ما كانت عليه أوروبا في نهاية عشرينيات القرن الماضي، حين عبّدت مُخلّفاتُ الحرب العالمية الأولى والأزمةُ الاقتصادية الكبرى (1929)، الطريق أمام صعود النازية والفاشية في كلّ من ألمانيا وإيطاليا.
اليوم، تبدو أحزاب اليمين المُتطرّف في أوروبا وكأنّها تستخلص عوائد حالة عدم اليقين هاته، وذلك بتقديمها خطاباً شعبوياً يركّز على فشل الحكومات والنُخَب السياسية في حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، مع تحميل المهاجرين قسطاً غير يسير عن تفاقم هذه المشكلات. هذا الخطاب بات يستقطب فئات اجتماعية متباينة داخل المجتمعات الأوروبية.
بيد أنّ المكاسب التي حققتها أحزاب اليمين المُتطرّف في انتخابات البرلمان الأوروبي، لا تمنع من القول إنّها لا تزال بعيدةً عن أن تُؤثّر في التوازنات التي تحكم السياسة الأوروبية، في ظلّ استمرار هيمنة الأحزاب الليبرالية وأحزاب الوسط داخل البرلمان الأوروبي. ومع ذلك، تضع النتائج المُسجّلة أوروبا أمام تحدّيات جسيمة، خاصّة في فرنسا، التي مُني فيها حزب النهضة، الذي ينتمي إليه الرئيس ماكرون، بانتكاسة كبيرة بعد حصوله فقط على 15% من الأصوات خلف التجمّع الوطني اليميني المُتطرّف، الذي حصل على 32%، وهو ما يمكن اعتباره جرس إنذار ليس فقط في فرنسا، بل في عموم دول الاتحاد الأوروبي.