الجماعات السلفيّة الجهاديّة في تونس

07 ديسمبر 2015

تونسيات في تظاهرة في العاصمة تندّد بالإرهاب (16نوفمبر/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
ليست الجماعات السلفية الجهادية حديثة عهد في تونس، بل تعود بدايات ظهورها إلى عهد الرئيس زين العابدين بن علي (1987-2011)، الذي حكم البلاد بقبضة حديدية، وفرض رقابة على أفكار الناس ومعتقداتهم، وحدّ من الحريات العامة والخاصة، وجدّ في محاصرة الظاهرة الدينية الإسلامية (الرقابة على المساجد، منع إرسال اللحية، منع الحجاب، حظر الجمعات الدينية، غلق الكتاتيب...)، وفي فرض علمانية قسرية على المواطنين، وقمع تيار الإسلام السياسي المعتدل، ممثلاً في حركة النهضة، فزجّ بعدد كبير من رموزها وأتباعها في السجون، واضطر آخرين إلى الهجرة خارج البلاد. وأورثت سياسة تجفيف المنابع في التعاطي مع الإسلاميين حالة من السخط لدى مواطنين تونسيين رأوا المعارضة السياسية السلمية غير مجدية في إقناع النظام بتغيير سياساته، فاختاروا العمل الجهادي/ السري، وتبنوا العنف منهجاً في الاحتجاج، وسبيلاً إلى تغيير النظام و"إقامة شرع الله". وفي هذا الإطار، فجّر تونسي نفسه في معبد "الغريبة" اليهودي سنة 2005، ما أدى إلى مصرع 19 سائحا ألمانياً، ونسبت العملية إلى تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي. وفي السياق نفسه، ظهرت مجموعة سليمان المسلحة سنة 2006، وضمت "جهاديين" منتسبين إلى كتيبة عقبة بن نافع، كانوا يتأهبون لاستهداف مؤسسات سيادية تونسية، غير أن العمل الاستخباراتي أدركهم، فقتل بعضهم في أثناء الاشتباكات، وزجّ آخرين في السجون، وواكبت ذلك حملة أمنية واسعة لاعتقال العناصر السلفية في المحافظات التونسية.
واغتنمت الجماعات السلفية الجهادية حدث الثورة، وتمتعها بالعفو التشريعي العام (مارس/ آذار 2011)، لتعيد ترتيب صفوفها، وتبرز من جديد، مقدمةً نفسها إلى الناس بوجه دعوي حيناً، وبوجه عنفي حيناً آخر. ويمكن التمييز عملياً بعد الثورة بين ثلاث جماعات جهادية بارزة، هي: أنصار الشريعة، وكتيبة عقبة بن نافع، وتنظيم "الدولة الإسلامية".

أنصار الشريعة
ظهر هذا التنظيم السلفي إلى العلن في تونس بتاريخ 27 إبريل/ نيسان 2011، عندما تم الإعلان عن تأسيسه عبر مدونة "مؤسسة القيروان الإعلامية". وفي 15 مايو/ أيار 2011، تم إحداث صفحة "فيسبوك" باسم "أنصار الشريعة في تونس"، واتخذت الجماعة سيف الله بن حسين، المكنّى بأبي عياض التونسي، زعيماً لها، وهو أحد المقاتلين التونسيين الذين عادوا من أفغانستان، واعتقلهم نظام بن علي، وتلقى أبو عياض التعاليم الدينية عن أبي قتادة الفلسطيني، أحد أعلام "القاعدة" في لندن، وأسس مجموعة المقاتلين التونسيين في أفغانستان سنة 2000، وله علاقات متينة بهاني السباعي المقيم في لندن.
وقدم تنظيم أنصار الشريعة نفسه للتونسيين، في البداية، على أنه منظمة دعوية، ذات أهداف
خيرية، وأنشطة وعظية، وعمل، في هذا الخصوص، على نشر مؤلفات شيوخ السلفية، وعلى توفير الخدمات الطبية والمواد الغذائية للمحتاجين، واستغل أجواء الثورة، لينصّب أئمة موالين له في عدد من المساجد عبر محافظات الجمهورية، ولتنظيم دروس دينية وخيمات دعوية وإغاثية، وبرزت لجان سلفية تابعة للتنظيم في الأحياء والمدن الكبرى للناس في موقع القادر على حمايتهم من الفوضى، والقادر على إنصافهم عندما يُظلَمون، على نحوٍ مكّن من استقطاب عدد مهم من المريدين.
وأمام وعي الجماعة بتزايد شعبيتها بين الناس، عمدت إلى القيام بأعمال استعراضية عنفية، حاولت فيها ترهيب المثقفين، والحد من حرية التعبير، من قبيل مهاجمة دور المسرح أو السينما، بدعوى عرضها أعمالاً فنية، تتعارض مع الإسلام من منظور الجماعة. واستفاد التنظيم من سياسة الملاينة التي اعتمدتها حركة النهضة، عند وصولها إلى الحكم، والتي حاولت إقناع الجماعة بالانتظام ضمن المشهد السياسي، وعرض أطروحاتها للناس بطريقة سلمية، غير أن تلك المحاولات فشلت، إذ رفض "أنصار الشريعة" الانخراط في العملية السياسية وتأسيس حزب قانوني. ويذكر أن الجماعة وزّعت مطبوعاتٍ تحذّر التونسيين من المشاركة في الانتخابات التشريعية (2011)، واعتبرت التصويت انتهاكاً للحاكمية الإلهية، والديمقراطية شكلاً من أشكال الشرك وصنمية جديدة، ووجهت تحذيراً للإسلاميين المشاركين في الانتخابات، قائلة إنهم سيندمون على أفعالهم يوم القيامة، وبلغ الأمر بالجماعة درجة اتهام راشد الغنوشي وأتباعه بالزندقة، والخروج عن الإسلام، لانخراطهم في مسار الانتقال الديمقراطي بالبلاد.
وفي الأثناء، نشطت الجماعة في المطالبة بإطلاق سراح التونسيين الذين حاربوا مع تنظيم القاعدة في العراق، في أثناء ذروة نشاطه (2005-2007). وأدارت اعتصامات سلمية أمام السفارة العراقية في تونس، في هذا الخصوص، وأشادت بالعمليات التي يقوم بها تنظيم القاعدة في العراق وأفغانستان، والصومال، ومالي.
وبدأ مسار التصادم بين التنظيم والحكومة التونسية، منذ الهجوم الذي استهدف السفارة الأميركية في تونس (سبتمبر/ أيلول 2012)، في عهد حكومة الترويكا الأولى، برئاسة حمادي الجبالي، والذي أدّى إلى مقتل متظاهرين محسوبين على التيار السلفي/ الجهادي، واعتقال عشرات آخرين منهم، لما قاموا به من أعمال عنف.
واستمرت العلاقة متوترة بين الطرفين، واستمر التنظيم في بسط نفوذه على عدد من المساجد، وفي تحريض الناس على السفر إلى سورية، وتنفيرهم من الديمقراطية ومتعلقاتها، وجدّ في توطيد علاقاته بتنظيمات جهادية إقليمية، في مقدمتها تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا. وبعد اغتيال الزعيمين السياسيين، شكري بلعيد (6 فبراير/ شباط 2013)، ومحمد البراهمي (26 يوليو/ تموز 2013)، أدرجت حكومة الترويكا الثانية، بزعامة حركة النهضة، جماعة "أنصار الشريعة في تونس" على قائمة المنظمات الإرهابية، وكان ذلك في 27 أغسطس/ آب 2013، ووجهت إليها تهم تهديد السلم الاجتماعي والقيام بعمليات إرهابية والضلوع في تسفير التونسيين إلى بؤر الصراع (سورية، ليبيا، العراق..)، وتزامن ذلك مع مداهمات كثيرة من السلطات الأمنية معاقل التنظيم، وشنها حملات اعتقال واسعة في صفوفه. وهو ما آل به إلى الانتقال من العمل العلني إلى العمل السري، فتراجع حضوره الميداني والإعلامي، ليظهر بديلاً عنه تنظيم كتيبة عقبة بن نافع.

كتيبة عقبة بن نافع
هي الفرع التونسي لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهي كتيبة مسلحة، تعود بداية ظهورها إلى سنة 2000، يقدّر عدد أفرادها بـ80 عنصراً تلقوا تدريبات على استخدام الأسلحة، وعلى القيام بالهجومات الخاطفة ضد المراكز الأمنية والمواقع السيادية، وتتمركز خصوصاً في محافظات القصرين وجندوبة والكاف وقفصة، وهي مدن طرفية تقع على الحدود الجزائرية، وتتخذ الكتيبة من مرتفعات جبل الشعانبي، وجبل سمامة، وجبل عرباطة وجبل السلوم مخابئ ومعسكرات لها.
ويشرف عليها تنظيميا الأمير محمد العربي بن مسعود المكنى بـ"أبي يحي الجزائري"، وتولى
قيادتها عسكرياً خالد الشايب، المكنى بلقمان أبي صخر، والذي يعرف "بسفير العلاقات" في الكتيبة، نظراً إلى علاقاته الواسعة بقيادات سلفية متشددة جزائرية وليبية، وقربه من عبد الملك دروكدال (أبو مصعب عبد الودود)، أمير تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وتنسب إلى الكتيبة العمليات المسلحة ضد النظام منذ ديسمبر/ كانون الأول 2012، منها عمليات ذبح الجنود في جبل الشعانبي، ومهاجمة مراكز الحرس الوطني، والثكنات العسكرية. وتبنت الكتيبة الهجوم على السياح في متحف باردو (18 مارس/ آذار 2015)، الذي أسفر عن مقتل 22 سائحاً، ولا يستبعد أن الكتيبة هي الذراع العسكري لأنصار الشريعة في تونس، خصوصاً أن هجماتها المسلحة تزايدت، بشكل لافت، عقب اعتقال أتباع التيار السلفي، إثر الهجوم على السفارة الأميركية، وعقب الإعلان عن تصنيف جماعة أنصار الشريعة منظمة إرهابية.
يضاف إلى ذلك أن الكتيبة أعلنت، عبر المنبر الإعلامي الإلكتروني الخاص بها "إفريقية للإعلام"، وعبر حساب "فجر القيروان" في "فيسبوك" و"تويتر"، أن بعض "شهدائها" أعضاء سابقون في تنظيم أنصار الشريعة في تونس. وكبّدت القوات الأمنية والعسكرية الجماعة خسائر كبيرة في صفوف قياداتها، من خلال ما قامت به من مداهمات وعمليات استباقية ناجحة، من قبيل مهاجمة خلية "رواد" التي أدت إلى مصرع كمال القضقاضي، المتهم بالمشاركة في اغتيال المعارض اليساري، شكري بلعيد، وعملية "سيدي عيش" وعملية جبل عمران في محافظة قفصة، جنوب البلاد، اللتين أدّتا إلى هلاك قادة بارزين في الكتيبة، وفي مقدمتهم لقمان أبي صخر، القائد العسكري للكتيبة، ومراد الغرسلي المنسق اللوجيستي للجماعة. وأدت الضربات الموجهة إلى التنظيم إلى محاصرته في الجبال، وقطع خطوط إمداده بالمال والمؤونة، وإلى انحسار حركته. وتفيد تقارير متواترة بأن الكتيبة عرفت انشقاقا عقب عملية سيدي عيش، فانقسمت إلى قسم بقي على ولائه لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وآخر اختار الانضمام إلى تنظيم "الدولة الإسلامية".

تنظيم "الدولة الإسلامية" في تونس
أخبر تنظيم الدولة الإسلامية، منذ نهاية العام 2014، بنيّته توجيه عملياته نحو تونس،
وبرغبته في إقامة "ولاية إفريقية" التي تشمل تونس وشمال غرب ليبيا وشمال شرق الجزائر. ومع منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2014، وجّه التنظيم رسالة مباشرة إلى الدولة والشعب التونسي، جاء فيها على لسان أبي بكر الحكيم المكنى بأبي المقاتل "نعم يا طواغيت، نحن من اغتلنا شكري بلعيد ومحمد البراهمي"، وجاء في مقطع الفيديو حث على الثأر للمعتقلين والمعتقلات من أبناء التيار السلفي، وتحريض على القيام بأعمال عنف ضد النظام الحاكم، ودعوة الشعب التونسي إلى مبايعة أبي بكر البغدادي، و"إعلاء راية التوحيد، وتمزيق رايات شارل ديغول ونابليون".
ولم تجد تلك الدعوة صدى واسعاً لها لدى عموم التونسيين، لكنها وجدت تجاوباً معها ممّن تبقّوا من "أنصار الشريعة" خارج السجن، أو من جانب شق من المنتمين إلى كتيبة عقبة بن نافع. وتبنى تنظيم "الدولة الإسلامية" الهجوم الدامي على حافلة الأمن الرئاسي في العاصمة تونس (24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015). ويُعدّ التنظيم أكثر إغراء للمستقطبين الجدد في التيار الجهادي التونسي، لما يتوفر عليه من جاهزية وجاذبية في آن، فحضوره الإعلامي المكثف، وامتداده الجغرافي، وخطابه المتطرف، وعملياته الدموية الشرسة، وما يحظى به من مال وعتاد، ذلك كله أغرى بعضهم بالانضمام إليه. وظهرت، في هذا السياق، جماعتان أخريان، أعلنتا الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية، وهما جماعة جند الخلافة في تونس التي تأسست بعد إعلان أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين، وأعلنت مبايعته، وجماعة طلائع جند الخلافة التي أعلنت مسؤوليتها عن تنفيذ الهجوم الدامي على متحف باردو.
ومن المفيد الإشارة إلى أن التمييز المنهجي/ البحثي بين هذه الجماعات "الجهادية" لا يعني بالضرورة أنها منفصلة، أو متنافرة، في الميدان، فالمرجح أن بعضها سليل بعض، وأنها تتكامل في مستوى توزيع الأدوار والاضطلاع بالمهام القتالية، فالظاهر أن عدداً مهمّاً من "أنصار الشريعة" هم عماد كتيبة عقبة بن نافع، وعدد مهم من أتباع الأخيرة هم قوام تنظيم "الدولة الإسلامية" في تونس، وظهور جماعة وتراجع أخرى، يتمّ لاعتبارات تكتيكية واستراتيجية ولغايات إعلامية، فتخفيف الوطأة على "أنصار الشريعة" اقتضى ظهور كتيبة عقبة، وتفعيل نشاطها المسلح بقوة بعد 2012، والرغبة في صرف النظر عن الأخيرة، اقتضى صعود تنظيم الدولة سنة 2015. والواقع أن هذه الجماعات تتبنى، من الناحية العقدية، الدوغما نفسها القائمة على جملة من المبادئ التي تلتقي عندها، لعل أهمها: الجهاد في سبيل الله، لتحكيم شرع الله في الأرض. والقتال من أجل إقامة الخلافة الإسلامية في أفريقيا خصوصاً والعالم كله. واعتبار الديمقراطية ومتعلقاتها كفراً، والقول إن التصويت والانتخابات شرك بالله، وما ينجم عنها باطل، والتسليم بمبدأ الحاكمية لله، ومعاداة الأنظمة العلمانية والمجتمعات الغربية، وحركات الإسلام السياسي الموسومة بالاعتدال.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.