النموذج الاستبدادي الديني والثورات العربية

21 يناير 2015
+ الخط -

إثر اندلاع شرارة الثورات العربية، انطلاقاً من تونس، وامتدادها بشكل متسارع، مهددة عروش الاستبداد، حيث استطاع الحراك الثوري المتصاعد، في وقت وجيز، أن يطيح رؤوس أنظمة بوليسية عاتية في تونس ومصر وليبيا واليمن، وتصاعدت التحركات في سورية، وبدأت تدق أبواب دول أخرى. كان هذا الفصل الأول من الحلم الثوري الذي كان يستمد قوته من عنفوان الشعوب الهادرة التي تطالب بالحرية، قبل أن تأخذ الأحداث منعرجها، عندما بدأت الثورة المضادة تستعيد أنفاسها، وتحاول أخذ زمام المبادرة، وهو تحول ساهمت فيه عوامل كثيرة داخلية وخارجية، ولكن ما يمكن تلمسه ضمن حركة الردة على الثورات العربية أن النموذج الاستبدادي، في سعيه إلى حماية ذاته وحفظ استمراريته، اتخذ ميسماً معيناً، رعته أنظمة محددة، بدت متناقضة سياسة ومصالح، لكنها تنطلق من بنية استبدادية واحدة، تستند إلى منطق داخلي، جوهره أن أي حراك يدعو إلى إرساء منظومة قيمية جديدة، أساسها الحرية يشكل خطراً ماحقاً عليها.

وأشد النماذج الاستبدادية تماسكاً وأكثرها عداء للثورات هي الأنظمة ذات الرداء الديني، والتي تقدم نفسها بوصفها وصية على منظومة دينية، غير قابلة للمناقشة والمراجعة، والتي تستفيد من نفوذ بنته سنوات، بالاشتراك مع أنظمة الاستبداد العربي في المنطقة، إلى الحد الذي أصبح معه بقاء الطغاة في السلطة شرطاً حيويّاً لاستمرارية دورها ودوامه.

فمنذ اللحظة الأولى للثورة التونسية، استقبلت المملكة العربية السعودية الرئيس المخلوع، بن علي، في لفتة غير ودية للحراك الثوري التونسي، وما زاد من متاعب الحكم السعودي سقوط حسني مبارك، الحليف الدائم والمعول عليه في تقديم خدمات بالوكالة، وإذا كانت المملكة لم تخف تأييدها الثورة الليبية أو السورية في بداياتها، فإنه لم يكن تأييداً للقيم التي من أجلها قامت الثورة، أعني الحرية والديمقراطية، وإنما من خلال تصور جيوسياسي، للتخلص من أنظمة مناوئة و/أو حليفة لقوى إقليمية أخرى في المنطقة. وفي المقابل، فإن النظام الإيراني (والمستند إلى منظومة دينية استبدادية)، وإن كان قد رحب بما جرى في تونس ومصر، وحاول تجييره لمصلحته، برفع شعارات التأييد والاحتواء، من قبيل أن ما جرى في البلدين امتداد للثورة الإسلامية الإيرانية (هكذا؟). لكن، ما أن وصلت بوادر الحريق الثوري إلى الحليف السوري، حتى اتخذ الموقف الإيراني ميسماً آخر، باعتبار أن ما يجري مؤامرة دولية صهيونية إمبريالية استكبارية ضد أحد أنظمة الممانعة والمقاومة.

ومن هنا، يمكن أن ندرس أوجه التماثل والتطابق بين النظامين، الإيراني والسعودي، في تعاملهما مع الثورات العربية، وهو أمر بالإمكان توصيفه على النحو التالي:

ـ ينبني كل من النظامين على منظومة دينية، تمنح الشرعية للحاكم خارج الاختيارات الشعبية، وبعيداً عن الخلاف المذهبي الشيعي السني، فإن نظام ولاية الفقيه الإيراني ليس إلا صيغة للحكم، تقوم فيه الدولة بدور المهيئ لمجيء المهدي المنتظر، ليقيم حكمه في الأرض، ما يعني أن جوهر السلطة غير قابل للتغيير، أو المراجعة، فسلطة الولي الفقيه ذات مصدر قدسي يستمدها من المهمة المنوطة به دستوريّاً. وفي المقابل، نشأت الدولة السعودية باعتبارها تحكيماً لشرع الله، وأن الملك يتمتع ببيعة دينية لا سبيل لنقضها أو مناقشتها، في غياب أي أطر دستورية أو قانونية، تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ومن هنا، يمكن القول إن كلا النظامين، وعلى الرغم من الاختلافات المذهبية، وتضارب التوجهات السياسية بين شعارات ثورية إيرانية وأخرى محافظة سعودية، ينطلقان من منظومة قيمية متشابهة، تقوم على الاستبداد بجذور دينية معلنة.

ـ يشكل النموذج الاستبدادي الديني في صورتيه، الإيرانية الشيعية أو السعودية السنية، الحالة القصوى التي يمكن أن تبلغها الأنظمة المغلقة، من حيث سلطة الدولة، وقدرتها على الرقابة والمنع بصورة عنيفة وحادة، وكلاهما يمثل ضلعاً أساسيّاً على المستوى الإقليمي، من حيث أنهما يقدمان نفسيهما بوصفهما حاميين للقيم الدينية، وراعيين للطائفية في المنطقة. وهذا ما يفسر حرصهما على بقاء الأنظمة الموالية لهما، أو الحليفة، خارج نطاق أي تغيير ديمقراطي، يمكن أن يمثل نموذجاً ناجحاً ومغريّاً للشعوب، من حيث إمكانية إدارتها شؤونها السياسية، من خلال الحوار والتداول على السلطة ومنطق المواطنة، بعيداً عن وصاية الحاكم ذي الشرعية الدينية الموهومة.

ـ مثّل صعود تيار الإسلام السياسي، بعد الثورات العربية، تحديّاً فعليّاً للنموذج الاستبدادي الديني، من حيث أنه يثبت إمكانية بناء تصور إسلامي للعمل السياسي، يقبل بالتعددية والحريات والتداول على السلطة خارج منطق الحكم الديني الجبري، وهو ما يفسر الحملة التي شنتها دول الاستبداد الديني على الأحزاب الإسلامية الصاعدة بعد الثورة، فجوهر الخلاف معها لم يكن يكمن مصلحيّاً سياسيّاً في ذاته، بقدر ما يتعلق بتهديد بنية الفكر السياسي الديني القائم على الاستبداد. ومن هنا، كانت مسارعة النظام السعودي إلى دعم الحالة الانقلابية المصرية، وضرب التيار الإسلامي المعتدل بعنف، لإثبات أن منطق الحريات والديمقراطية غير قابل للاستنبات في البيئة العربية. وبالمثل، تحركت إيران وأحزابها الطائفية الى دعم النظام السوري وحمايته من الانهيار لأن سقوط النظام الطائفي هناك والتأسيس لدولة متعددة قائمة على المواطنة إنما هو نقض للتصور الذي تروج له والذي حاولت أن تجعل منه نموذجاً قابلاً للتصدير (شعارات تصدير الثورة الإيرانية التي رفعها الخميني).

ـ ومثل ظهور التنظيمات السنية الدينية رد فعل مباشر وميكانيكي على التوجهات الإيرانية والسعودية، ونعني به تصاعد تأثير تنظيم "داعش"، بوصفه نموذجاً دينيّاً استبداديّاً آخر، يحاول تثبيت أركانه في المنطقة، على الرغم من أنف الجغرافيا والتاريخ، وهو ما قدم خدمة مباشرة للنظامين، الإيراني والسعودي، حيث تحول الأمر من التآمر على الثورات العربية إلى إطاحة تنظيم إرهابي متمدد، في نوع من التعمية على المشروع المركزي لكلتا الدولتين، من حيث كونهما لا يسعيان إلى دعم الحريات والانتقال الديمقراطي وإقامة دولة المواطنة في الدول التي يتدخلان فيها، بقدر ما يتعلق الأمر بتثبيت أركان أنظمة استبدادية، تخدم مصالحها وتسير في ركابها.

ليست الثورة في ذاتها مجرد حراك سياسي للقيام بانقلاب سلطوي، وإنما هي ضرب للبنى التقليدية للممارسة السياسية وطرق إدارة الشأن العام وترسيخ منظومة قيمية جديدة، تعيد الاعتبار لفكرة المواطنة والحقوق والحريات، وتلغي التصورات الاستبدادية، وهذا ما جعلها عرضة لمحاولات الإفشال والتدمير، وهو ما سعت إليه أنظمة الطغيان في المنطقة، وفي مقدمتها أنظمة الاستبداد الديني التي خشيت أن تفقد شرعيتها ومبرر وجودها، وهي التي تعتاش على تسويق وهم، أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.