الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان
ظلت المسألة الحقوقية غريبةً عن الفكر العربي في مقابل الحضور القوي لمعنى السلطة، وافتكاك الحكم، وتعديل المجتمع بقوة الدولة، وهذا ما يفسر استمرار القوة الدافعة للاستبداد في المنطقة (استبداد الحكام، ولكن، أيضاً، استبداد يسكن الأحزاب من حيث البنية والتفكير) فحقوق الإنسان تتجاوز كونها مجرد تشريعات (على أهميتها)، لتعبر عن ثقافة مجتمعيةٍ، تحترم الإنسان من حيث هو كذلك، حيث تثبت الوقائع أن جميع الدساتير في الدول العربية، تقريباً، تتبنى مقولات حقوقية، وتتحدث عن الحريات. ولكن، ما تمنحه هذه الفصول الدستورية يتم انتزاعه، وتحويل مجراه عبر القوانين التفصيلية التي تتخذ من قضايا الأمن الوطني، وحماية البلاد شماعةً، تعلق عليها شرعية الممارسات اللاإنسانية للأنظمة البوليسية.
وتترسخ الثقافة الحقوقية بالتعليم والفنون والإعلام بالتخلي عن منطق الفكر المغرق في الأدلجة، أو التصورات السلطوية التي تلح على شيطنة الآخر (الشريك في المجتمع) وتصويره خصماً، ينبغي اجتثاثه، باعتباره يرمز للشر المحض. ويمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى ما عمد إليه نظام الانقلاب في مصر من تعديلاتٍ في الكتب المدرسية، ترسخ أسس الاستبداد، وتجعل من الممارسات القمعية أمراً مقبولاً وعقلانياً. ولا يمكن، في هذا السياق، أن نغفل عن أن طبيعة التربية التي يتلقاها المواطن، عبر مصادر المعرفة العمومية المتاحة (مدرسة/ إعلام/فنون) هي التي تحدد مدى قابليته لفكرة التسامح، أو العنف، حيث لا يمكن تفسير تصاعد موجات الإرهاب، أو الانخراط في حالات الفوضى التي عرفتها دول عربية، إلا بفشل منظوماتها التعليمية والثقافية في زرع معنى المواطنة، بدلالتها الحقوقية الدقيقة، وهو أمر يحيلنا إلى العلاقة القائمة بين حقوق الإنسان والديمقراطية، باعتبار التلازم الضروري بينهما، فالغاية التي يهدف إليها كلاهما هو الحد من تغول السلطة، ومن هيمنتها على المجتمع، فالمنظومة الحقوقية تشترط نظاماً، يحترم القانون، ويبسط الحريات العامة، لأن حقوق الإنسان، في النهاية، هي منظومة الحقوق الفردية التي لا يجوز لأي سلطة سياسية إلغاؤها، أو تأجيلها، أو سلبها تحت أي مبرر كان.
وفي المقابل، الممارسة الديمقراطية هي التي تمنح المواطن القدرة على اختيار ممثليه، لأنه لا يمكن أن نتحدث عن حقوق إنسانية، في ظل دولة ترسي شرعيتها على أساس أيديولوجي (ديني أو دنيوي)، أو على أساس القوة (كما تفعل أنظمة الحكم العسكري)، وإنما الأساس الوحيد للحكم هو التمثيلية، فالديمقراطية، بهذا المعنى، تخلق الهيئة التي تتولى الحكم، وفي الوقت نفسه، تفرز السلطة المضادة (المعارضة) التي ستتولى الرقابة، وتمنع الحاكم، مهما كانت درجة تفويضه من الاعتداء على الحقوق المدنية والسياسية للمواطن.
وإذا كانت الديمقراطية، كممارسة تقوم بفصل السلطات أفقيا (مبدأ توزيع السلطات)، فإن المجتمع المدني هو الذي يفصلها عمودياً، ويمنع تركزها لدى النخبة الحاكمة، وانعدامها لدى المواطن، وهو أمر لا يتحقق فعلياً إلا عبر مجتمع مدني ناشط وقوي، ويفسح المجال أمام توزيع للسلطة على مستوى محلي، من خلال ما يصطلح على تسميته الديمقراطية التشاركية، حيث يصبح في وسع المواطن التأثير في القرارات المركزية، عبر آليات المجتمع المدني (جمعيات، منظمات حقوقية، نقابات).
وتكمن جذور الأزمة التي تعانيها الشعوب العربية في غياب ثقافة الحوار والاعتراف بالآخر شريكاً في القرار، وإقرار فكرة التسامح بديلاً عن الإقصاء والإلغاء، وهذه الثقافة ناجمة عن طبيعة الممارسات السلطوية، الممتدة بداية من الأسرة، مروراً بالمدرسة وصولاً إلى سلطة الدولة ونظام الحكم الذي يحاول، في أحيان كثيرة، تأبيد أشكال الممارسة العنيفة والمنغلقة، وهو أمر يفسر، إلى حد كبير، لماذا تنزاح المجتمعات العربية إلى العنف والفوضى، مع انهيار نظام الحكم الاستبدادي.
ومما تقدم، يمكن التأكيد أنه ليس أمام المجتمعات العربية سوى الحوار لفض النزاعات وحل مختلف مشكلاتها، سواء المتعلقة بالمسألة السياسية وسبل الوصول إلى السلطة والتداول عليها، أو قضايا الاختلاف الثقافي والفكري، وتظل الديمقراطية هي النظام الأمثل لتصريف كل الأزمات، ومنع الفئات المختلفة من الانجرار نحو العنف، بالنظر إلى أنها تتأسس على أشكال من الحوار المتبادل، والابتعاد عن كل صور النفي والإقصاء، فالديمقراطية "تنظم التناقضات، وتعوض المعارك المادية بمعارك بين الأفكار، فتحدد بواسطة الجدالات والانتخابات من سينتصر مؤقتاً من بين تلك الأفكار المتصارعة"، كما يقول إدغار موران. على أن الديمقراطية، بوصفها أداة إجرائية لتنظيم الاختلافات، تفترض أرضية ثقافية وفكرية، لا غنى عنها لكل مجتمع متعدد، وهي سيادة ثقافة التسامح والقبول بالآخر المغاير، والتأكيد على حكمة العيش المشترك، في ظل وحدة تحفظ التنوع، ولا تلغيه.
ويبقى العنف مشكلاً أساسياً، يعوق كل محاولة لبناء مجتمع تعددي، ويمكن أن نلاحظ، هنا، أنه ليس سهلاً إلغاء العنف، لأنه ظاهرة متأصلة في الوجود الاجتماعي الإنساني، ولأنه نتاج تضارب في المصالح والرغبات، بل يمكن القول، مع أنفري، إنه "ليس هناك العنيفون، ومن هم ليسوا كذلك، بل هناك من يعلنون عنفهم، وهنالك من يخفونه، ليسوقوا على نحو أنجع عالمهم"، بحيث يمكن القول إن أكثر المجتمعات ديمقراطية ذاتها لا تخلو من العنف، ولكن، هناك فرق بين أن يكون العنف نهجاً وأداة لتحقيق الغايات وفرض الرؤى والتصورات، وأن يكون ظاهرة عرضية، يمكن محاصرتها والتحكم فيها، وهو المطلوب لكل مجتمعٍ، يروم تحقيق الرقي والتقدم.