يوم مختلف في الوادي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
لكي تصل إلى قرى وادي الطائيين المعلّقة في المرتفعات، عليك أن تنطلق صباحاً في طريق طولي من مسقط إلى شرقية عُمان. لم تعد الآن الطرق وعرةً كما كان الحال في الذاكرة، إذ رُصِف ذلك الشارع الترابي المحدودب، الذي لا يلبث أن يرتفع بمن فوقه، دابّة كان أم سيارة، فلا يمكن عبوره يومئذ من دون ذكرى لا تُنسى، تتخلّلها توقّفات، وأحياناً تعطلّ وسيلة النقل إلى جانب مواقف زيارات بيوت تفرضها ظروف ذلك الوقت.
يتذكّر كاتب هذه السطور طفولته حين كان يقطع هذا الوادي ذا القرى المتناسخة بصعوبة كبيرة، ولكنّها لا تخلو من متعة. وسبب هذه المتعة كثرة التوقّفات التي تعتري الرحلة، وبعضها يأتي في الليل فيحتّم المبيت. ولم يكن المبيت صعباً طالما دخلتَ أيّاً من قرى وادي الطائيين، لأن أيّ مصادفةٍ لأقرب بيت ستجد فيها ضيافةً مضمونةً، ولو بزادٍ قليلٍ وتمر وماء، طالما ثمّة عائلة في ذلك البيت. وإذا لم تكن الضيافة في جوف البيت، فإن ما تحتاجه سيأتيك إلى الخارج من فرشٍ بسيطة للنوم، وأغطية إن كان الوقت شتاء، بالإضافة إلى ما تيّسر من طعام. هي أعرافٌ اعتادتها قرى الطائيين، كنت فيها مع جدّي ووالدي وأخواتي، ورهط من أقربائنا الأطفال. ولم لا؟ من صادف وجوده من جيراننا سينضم إلينا بسهولة، ومن دون الحاجة في أحايين كثيرة لإخطار أهله، منطلقين عادة من مطرح في العاصمة حيث كنّا نقيم.
كان التوقّف بالقرب من بركة أو قاطع مائي متعةً ما بعدها متعة للأطفال، إذ إنهم يقفزون رأساً إلى الماء للسباحة، وقد بعثروا دشاديشهم في قلب المؤخّرة المفتوحة للسيّارة "بيك آب" أو في طريق الجري إلى قلب البركة. وكنا ما إن نقف في قرية وأمام أيّ بيت قريب إلا ويخرج ساكنوه لاستقبالنا وضيافتنا بما يتيسّر لديهم من منام وطعام يجهزان سريعاً، فيُخبَز الخبز الرقيق، وتُذبَح أقرب دجاجة في المتناول. وفي الصباح يمكن أن يكون الإفطار أقراص خبز مع العسل والسمن البقري والقهوة.
عادة يعرف الناس بعضهم بعضاً بسهولة، فما إن ينطق الواحد اسمه واسم والده وجده حتى يصبح مألوفاً. أتذكّر أن جدّي لم يكن يحتاج لأن يذكّر أحداً باسمه، لأنه معروف بصورة ملحوظة في جميع تلك القرى بمختلف بيوتها المتداخلة، المُفضِي بعضها إلى بعض وكأنها بيت واحد كبير. وحين نصل إلى قرية نقصى (مقصدنا في العادة)، بعد أن نمرّ بقرية الرحبة، التي تعود نسبة (الرحبي) إليها، فإنّ الجميع تقريباً يهرعون للسلام على الجدّ، بمن فيهم النساء والأطفال. وصلنا إلى وادي قبعت، وهو نهير حليبي اللون، وأنت تراه من الأعلى تظّنه نهراً من الحليب من دون أن تحتاج إلى تخيّل ذلك، لأن هذا لونه الذي يتبدّى للناظر، لأنه نهير كبريتي. عليك أن توقف السيارة على مسافة قبل أن تقترب منه، ثمّ تشق طريقك راجلاً.
كان الصديق والكاتب زهران القاسمي أمامنا، نظراً لمعرفته بأسرار قرى وادي الطائيين بحكم سكنه في إحدى قراها، في قرية تسمّى "مس"، رأينا في أطرافها مزرعتَيه المخصّصتَين لثمرتي البابايا والبطيخ الأحمر فقط. المزرعتان الصغيرتان قريبتان من بعضهما يفصل بينهما حوضٌ مائي يُشغّل للضخ بواسطة الطاقة الشمسية التي نصبها زهران في سفح إحدى التلال الجبلية. من هناك ذهبنا إلى قرية صموت حيث سرنا نصف المسافة بواسطة الأقدام لنجد أنفسنا أمام عين ماء جارية، تتجمّع في بركة عريضة قبل أن تشقّ طريقها الصامت في امتدادات أطراف القرى. وقد شيّدت وزارة السياحة مجموعةً من المصاطب حول البركة بغرض الجلوس والتأمّل. هذه البركة جاءها مرّة "يوتيوبر" هندي يقيم في دبي، وصوّر فيها نفسه وهو يسبح، ولم يمض وقت طويل، حتى امتلأ المكان بالزوار من الذين كانوا يتابعونه ومن مناطق مختلفة. كان الصمت سيّد المكان يحفّه خرير الماء، ومياه تبدو حصاها "صليل الحلي في أيدي الغواني" كما قال أبو الطيّب المتنبي، على شيء من الخضرة المترفة والطقس البارد.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية