جرائم تفوق التصوّر

16 ديسمبر 2024
+ الخط -

كان مصدرنا في السابق لمعرفة جرائم النظام الأسدي (الأب ثمّ الابن) رواية مصطفى خليفة "القوقعة ... يوميات متلصّص"، (دار الآداب، بيروت، 2008)، والتي شهدت رواجاً عربياً أولاً، ثمّ تُرجِمت إلى عدة لغات. وهي تسرد قصة الكاتب نفسه، إلى جانب رفيق له، كما صرّح الكاتب بعد نشرها.
يأتي بطل الرواية من باريس في زيارة إلى سورية، فيُلقى عليه القبض بسبب وشاية مخبر، ذات سهرة جمعته بأصدقاء في باريس، اتهمه بأنه سخر خلالها من الرئيس حافظ الأسد. ورغم أن البطل هنا مسيحي، يُحشَر مع معتقلين مسلمين، وفي أثناء التحقيق يعترف بأنه ملحد، لا مسلماً ولا مسيحيّاً، علّ هذا الاعتراف يكون في صالحه فيخفّف عنه العذاب، ولكنّ هذا الاعتراف يكون سبباً في إضافة عذاب نفسي إلى العذاب الجسدي المستمرّ، حين ينفر منه السجناء بسبب إلحاده، ما يجعله يعيش في قوقعةٍ يرسمها في ذهنه، ويركن إلى الصمت والمراقبة و"التلصّص"، وإحاطة نفسه بعزلة تامّة، استطاع في أثنائها أن يرصد صنوف العذاب التي يعانيها المساجينُ في أكثر من سجن سوري، إبّان فترتي الأسد الأب، ثمّ الابن، إذ تنكشف الآن جرائمهما الفظيعة في حقّ المساجين الذين يتعرّضون للسجن ثمّ للموت لأيّ سبب، حتى إن كتبوا منشوراً في صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي ضدّ النظام. ومن أبرز هذه القصص الحقيقية، قصّة مازن الحمادة الذي لم يمهله القدر لأن يرى سورية وقد تحرّرت من كابوس خانق، كان حتى وقت قصير يظنّه الجميع أبدياً، فبدأت مختلف الدول التطبيع معه.
عديدة الاعترافات التي قرأها كاتب هذه السطور عن سجون عربية أشبه بأقبيةٍ لا إنسانية، بعضهم يُحشَرون في غرف طينية مظلمة وضيّقة مقيّدي الأرجل والأيادي بالسلاسل فترات طويلة. وإن كانت تلك حالات فردية قياساً بما حدث في سورية من عقاب يكاد يكون جماعياً، نظراً إلى كثرة ضحاياه، إلى جانب الممارسة المستمرّة للتعذيب وعدم الاكتفاء بالعزل والسجن، فما رأيناه من ضحايا سجون الأسد يفوق الوصف، خاصّة ما كشف عنه سجن صيدنايا من قصص مرعبة، لم تُكشَف تفاصيلها الدقيقة بعد، فبعض المساجين ما زالوا يستحون ويتحرّجون من ذكر أدقّ التفاصيل، خاصّة في جانبها الجنسي.
عاش الشعب السوري في أثناء حكم الأسد في ظلّ مجموعة من السجون، بداية من سجن الخوف والإهانات والتنكيل، ثمّ السجن الحقيقي، حين يُحشر الناس ومن مختلف الأعمار في أقبية لا إنسانية، ينتظرون أن يأتيهم الموت في أيّ لحظة، والناجي من هذه السجون إن خرج سليم الجسد، فإنه يكون مُثقلاً بذكرى مريرة، سواء لما مرّ به شخصياً من عنف وعذاب وإهمال، أو لما رآه من صنوف التعذيب والتنكيل لنزلاء آخرين تعرّف إليهم. ستخرُج علينا الآن مجموعة من القصص المريرة لسجون الأسد، كلّ قصة منها تستحقّ أن توثَّق في قصّة طويلة أو رواية أو حتى سيرة تفصيلية أو فيلم سينمائي، سواء كانت هذه السيرة ذاتيةً أم غيرية. فسورية تحرّرت أخيراً من خوف الحديث عن هذا الجانب، فقائد عصابة السجّانين في سورية صار الآن هارباً ولاجئاً وربّما تنتظره محاكمة، فقد هرب في ليل من سورية، تاركاً بلاده لتقلّبات الرياح. ولكن آلاف المساجين سواء من قضى منهم أومن لم يزل حيّاً، لن ترتاح أرواحهم قبل أن يروا الجلّادين وآمريهم يحاكمون وينالون عقوبتهم، وكلّ من شارك وساعد في رسم هذه البشاعة البشرية، التي رأينا منها صوراً مفزعة في الأيّام الماضية. صور لمنسيّين في الظلام، قضى بعضهم عشرات السنين من دون أن يتمكّنوا من الدفاع عن أنفسهم، وما كان لهم أن يروا نور الشمس بسهولة، لولا أن نال التوفيق الثوار فدخلوا دمشق فاتحين (للبلد، وللسجون أيضاً).
وإذا كانت القصص (في أثناء كتابة هذه السطور) تروى عن فظائع هذه السجون، فلا شكّ أن قصصاً أخرى كثيرة ستروى، فكثير من المساجين ما زالوا تحت سيطرة الصدمة واحتباس الكلام، ستهدأ أحوالهم رويداً رويداً ويستطيعون حينها أن يسردوا لنا تفاصيل دقيقةً، عمّا حصل لهم في أقبية وظلمات أشدّ الأنظمة عنفاً ولا إنسانيةً في العصر الحديث.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي