ذهول سوري قبيل رأس السنة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
العام الذي يوشك على الانتهاء ربّما من أكثر الأعوام في حياتنا التي ألصقنا فيه أعيننا على موانئ وشاشات هواتفنا وحواسيبنا ليل نهار، نتابع كلّ جديد، رغم أنّ هذا الجديد ليس كذلك بالمعنى الصحيح إلّا في جدّة تنوّع مشاهد العنف فيه، بل هو امتداد لعامٍ سابقٍ من حيث قوّة المجازر وعنفها، التي ترتكب ضدّ أهلنا في قطاع غزّة، أمام صمت العالم ولامبالاته. عام آخر من العار في عالم تمنّينا لو لم نعش فيه، وربّما غبطنا آباءنا وأجدادنا الذين عاشوا في زمن يمكن اعتباره رومانسياً قياساً بزماننا، رغم صعوبات عيشهم وبعدهم عن السهولة ووسائل الترفيه التي في زمننا، وكأنّ ما يحدُث في فلسطين هو بوصلة وترجمان شعورنا وأحوالنا.
وعلى المستوى الشخصي، كان قليل من الأسفار وكثيراً من القراءات في هذا العام. ربّما القراءة هي العزاء المناسب لمراوغة الوقت وتبديد ثقله، إذ أمضي أوقاتاً جيّدةً في المقاهي، وعادة بصحبة كتاب، وأحياناً مرَّتَين في اليوم. رفض صاحب المقهى الذي أرتاده يضيف أضواء إلى شجرة عيد الميلاد التي جلبها عمّال المقهى الفيليبينيون، وقد تفهّموا ذلك جيّداً في حوار لي مع أحدهم. وعرفت أنّ السبب هو التضامن مع غزّة. والآن، نتابع الموضوع السوري الذي لا يصعب ملاحظةَ أن ثمّة ذهولاً ما زال يخيّم على مشاعر السوريين، بخاصّة المثقفين منهم، وهو أمر يمكن ملاحظته بسهولة، وكأن نهاية النظام السوري كانت مرحلةً لا بدّ منها، في توافق دولي على ضرورة وقوع هذه النهاية في هذا التوقيت، وكأنّما سئمت الدول المحرّكة للمشهد العربي والفاعلة فيه من بلدٍ اختُرِق من كلّ الجهات.
يتعلق الذهول أيضاً بعدم استيعاب كمّية الخراب والدمار اللذين حلّا بالبلد في حكم هذه العائلة المجرمة بلا حدود، وبلا أي نموذج سابق لها، لا أحد يستوعب بسهولة ما نتج من أكثر 50 عاماً، إذ انتشرت خريطة العنف السرطانية لتحصد كلّ شيء، وهو ما تُنبِئ به المعتقلات والمقابر الجماعية، وتجاوز الدمار البنية العمرانية للدولة، ليتسلّل إلى البنية الذهنية السورية، على اختلاف الفسيفساء السورية وتنوعها من مذاهب وأعراق وثقافات، خراب بنيوي وذهني عام وشامل ومتجذّر.
وأنا أتابع كلّ يوم (بل كلّ ساعة) حوارات وبودكاسات وفيديوهات في مختلف القنوات، كما أقرأ كتابات الأصدقاء في جدرانهم الزرقاء (فيسبوك)، إلى جانب لقاءات مع المواطنين والطلاب في دمشق ومحافظات سورية. يسيطر الذهول والصمت المتردّد والحيرة، وكأنّ الخراب عام وكارثي، طاول حتى الإيمان وآليات التفكير وبواعث العمل، وهو ما تُنبِئ به الحوارات التي تنمّ عن ذهول وحيرة في التفكير وفي تنظيم الأولويات، لأنّ المجهول أكثر ما يسيطر على شعور السوريين، ويجعلهم يعيشون صمتاً مركَّباً. لاحظت أيضاً أنه حتى مشاهد عودة السوريين إلى بلدهم ولقاء أهلهم ليست طبيعية، فهم يعيشون ذهولاً يسهل تبيّنه من سطح الملامح، فما بالنا بأعماقها.
شعور من عدم التصديق وشعور باللامتوقّع، وانعدام التركيز بين ما يريدون وما يتوقّعون. وكأنّ الجميع كان يعيش أزمةً عامّةً، بدأت الآن تأخذ صورةً حذرةً من التلاحم والتشارك بعد أن كان بعضهم غرباء عن بعض، وكأنّ كلّ مجموعة في سورية كانت تعيش في كانتون خاصّ بها، لقد جذّر النظام الأسدي المجرم غياب أي مبدأ للوطن، وغياب أيّ طقس من طقوس المشاركة والتكامل، فكان الخوف يشلّ الحياة ويمنع الجميع من أيّ نوع من المشاركة، في ظلّ نظام يمكنه أن يسجن ويعذّب مواطنيه لمُجرَّد وشاية. الخوف من كلّ شيء ومن كلّ أحد كانا السائدين بين السوريّين، خاصّة بين سوريّي الداخل، لذلك تشكّلت أزمة ثقة حقيقية لكلّ ما هو جديد، في بلد كان عدد المعتقلات والسجون فيه أكثر من عدد المدارس، كما قال مرّة ياسر العظمة في إحدى حلقات مسلسل مرايا. فالاستيقاظ من كارثة عميقة سيحتاج إلى أعوام من العمل الجادّ.
أتمنى أن يكون العام المُقبل أبهى وأصفى فلسطينياً وسورياً، وكما اعتدنا أن نقول: "كلّ عام والعالم بخير".
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية