عن عنيبة الحمري الذي لن ينسى

30 ديسمبر 2024
+ الخط -

تفاعلات كثيرة، وتدوينات متنوعة، شيّعت الشاعر المغربي المخضرم محمد عنيبة الحمري، ليلة وفاته في 25 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، معظمها ذو بعد إنساني، إذ عُرف الراحل بوداعته، وبدماثة أخلاقه، وبحبّه أصدقاءه، وبخوضه التجارب الفريدة، وبعلاقاته الثقافية المتعدّدة، إلى جانب عناوين دواوينه الشعرية المرتبطة بالحياة، أوّلها "الحُبّ مهزلة القرون" (1969)، الذي كتبه إبّان يفاعته اليسارية الجامعية في جامعة سيدي محمّد بن عبد الله بفاس، التي كانت تنغل في ستينيّات القرن العشرين وسبعينياته بالأحلام الطلّابية، وكان لما يطلق عليهم حينها اسم "القاعديّين" أسئلتهم وشعاراتهم.
اختار عنيبة حينها أن يعبّر بالشعر في محاولات أولى، فأطلق هذا الديوان معارضاً فيه نزار قباني، الذي طالما تغنّى بالحُبّ، الذي أشاع كلماته معظم المطربين الكبار في العالم العربي، من أمّ كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وآخرين. أراد الشاب الذي كانه عنيبة حينها أن يقول، في ديوانه ذي العنوان المباشر والساخر، أن الحُبّ لن يغدو سوى مهزلة وانكفاء للذات، وجنوح مثالي قياساً بالهموم الجماعية التي كان في مقدّمتها الفقر. تخلّى عنيبة لاحقاً عن هذا النوع من الشعر الواضح، الذي يمكن أن يكون له دور توثيقي للذات الشاعرة، وأيضاً لتفكير المجتمع في فترة من الفترات، لتتوالى بعد ذلك عناوين ذلك الجميل الغامض، كما كان يحلو لعنيبة أن يسمّي الشعر، مثل دواوين "داء الأحبّة"، و"رعشات المكان"، و"تكتبك المحن"، وغيرها، وكتاب "حين يخطئ الموت طريقه"، وهو كتاب نثري عن الشعراء الذين ماتوا باكراً.
كاتب هذه السطور جمعته لقاءات كثيرة بعنيبة، وذات مقهى سألتُه عن القصيدة التي دبجها بشأنه الشاعر المغربي عبد الله راجع، فكان يحفظها، فاقترحت عليه أن يتكرّم ويكتبها لي بخطّ يده في ورقة عادية في المقهى، ما زلت احتفظ بهذه القصيدة الجميلة بخطّ يده وقد بروزتها. وكانت الأبيات كأنّما تصف أعماق شاعر الدار البيضاء عنيبة الحمري. الشاعر عبد العزيز أمزيان، الرفيق الوفي لعنيبة، قال عنه ذات حوار: "يتمتّع الشاعر محمد عنيبة الحمري بروح الدعابة، ويمتلك حسّ النكتة، يتّصف كذلك بالحكمة والرصانة وهدوء الطبع، اجتماعي بنسبة معينة، وفي الحدود المعقولة، حدسه الغريزي لا يُخطئ، وتوقّعاته تصدق في غالب الأحيان". وفي أحاديثه اللطيفة يمكن أن نرى عبر الشاشة الصافية لذاكرته تفاصيل الحياة الغاربة. ولن أنسى ذلك الصباح الذي وجدته فيه بباب الفندق قبل سفري إلى مسقط، وكنت أنوي استقلال القطار الذاهب من محطة الدار البيضاء الميناء إلى مطار محمّد الخامس، وجدت عنيبة في انتظاري ليقلّني إلى المطار بسيّارته، رغم أنه في تلك الفترة قد خرج توّاً من عملية جراحية معقّدة. بدوتُ محرجاً أمام كرم إنسان نادر في صدق مشاعره ومحبّته رغم تقدّم عمره. موقف شخصي آخر يصعب نسيانه، قدومه من الدار البيضاء برفقة عبد العزيز أمزيان، لينضمّ إلى الطلبة الجالسين في أثناء مناقشتي رسالة الماجستير، بمعيّة الصديق العراقي الشاعر ناصر مؤنس، المقيم في هولندا. تحوّل حديث المشرفين على الرسالة إلى التنويه بوجود الشاعر الحمري بيننا، وكان في منصّة المناقشة الأساتذة الجامعيون: العالية ماء العينين، ومحمود عبد الغني، ومحمد جودات.
ثمّة مواقف كثيرة لعديدين من أصدقاء الراحل ومعاصريه ومن صادفه وجالسه. شخصياً، لديّ بعض دواوين عنيبة الحمري التي طبعها على نفقته، وذات يوم كان زميل لي محتاراً في اختيار الشاعر الذي سيكتب عنه رسالة الماجستير، وكان لديّ غلاف الأعمال الكاملة لعنيبة، فقلت له: اقرأ هذا ثمّ قرّر. أيّام بعد ذلك طلب مني الزميل رقم هاتف الشاعر الذي قابل اهتمامه برحابة، ودعاه إلى الدار البيضاء ليطلعه على وثائق قد تفيده، إلى أن أنهى رسالته ثمّ ناقشها.
عرف عن الشاعر الراحل أيضاً عشقه المكين للعربية، التي ألّف في علومها ومقاماتها وعروضها، مثل كتاب "في الإيقاع الشعري"، و"في إعدام الشعراء"، و"بقايا دم في أكف الشعراء"، إلى جانب ديوان"سمّ هذا السواد"، الذي لم يقدّر له إصداره بسبب رحيله... رحمه الله!

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي