يوميات فيرجينيا وولف
لم أعد أذكر متى بدأتُ قراءة "يوميات كاتب"، للأديبة فيرجينيا وولف (1882 - 1941)، ومتى انتهيتُ. الحقيقة أنني لم أنتهِ ولن أنتهي، إذ ما زلت، بين حين وحين، أعود إليه لأغرق بين صفحاته. تسحرني هذه السيدة، وأشعر، مع قراءتي المتكرّرة يومياتها، أني بتّ أدرى بها، أكثر تواصلا معها، أشدّ تورّطا بعالمها. اليوميات تتيح صلةً من نوع آخر. إنها تُظهِّر ما لا تُريه دوما سطورُ الكتب الأدبية، ما يكمن خلف المرآة، وراء الشاشة، مصدر الإنارة وما يختبئ في الطوابق السفلى من سرّ وظلّ. اليوميات الأدبية شرفةٌ مطلّةٌ على حياة الكاتب، أعماله، مشاعره، مواقفه، عالمه، عصره، وهي، بسبب زوالها التامّ تقريبا من عصرنا هذا، تحوّلت إلى كنز لا يُملّ من إعادة اكتشافه، فمن منّا لم يأسره كتاب "اللاطمأنينة" للبرتغالي فرناندو بيسّوا، أو "مهنة العيش" للإيطالي شيزاري بافيزي، أو "دفاتر كامو" بأجزائه الثلاثة، أو "يوميات" فرانز كافكا، أو يوميات سوزان سونتاغ، .. إلخ.
لمحبّي الكاتبة الإنكليزية أن يكتشفوا إذًا، إضافة إلى هوس وولف وولعها بالكلمات، كيفية تكوّن الكتب التي قرأوها لها، وما هي الحالات، أو بالأحرى الصيغ العديدة التي مرّت بها أعمالٌ مثل "مسز دالاواي"، أو "المنارة"، حيث تذكُر المؤلّفة، بكل دقة، الجهد الهائل التي كانت تبذله في كل مرّة، فهي تكتب بداية بالريشة والدواة، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ على الآلة الكاتبة، ثم تُحصي الكلمات، وتشطب، وتعيد، ثم تنتج مسوّدة ثانية، ثم إعادة قراءة، .. إلخ، مع الشكّ المخيّم الدائم الذي يرافق العملية: "هل سيُباع الكتاب بما يكفي، هل سيعجب النقّاد، ليونارد"؟
بعد وفاتها باثني عشر عاما، قرّر الناشر وزوج الكاتبة، ليونارد وولف، نشرَ دفاترها العديدة وعددها 26، بعد تحريرها وترتيبها، عام 1953، وهي يومياتٌ باشرت كتابتها عام 1915 واستمرت حتى 9 مارس/ آذار 1941، متوقفة قبل 19 يوما فقط من انتحارها. وسوف يكتشف قارئ اليوميات أن فيرجينيا وولف عاشت في الكتابة، عبرها ومن أجلها، من دون أن يعني ذلك ابتعادها عن القراءة، فقد كانت تعشق الكتب، وتبدي رأيها في كل ما ومن تقرأه: روايات دوستويفسكي وتورغينييف، شكسبير العظيم الذي تعيد قراءته بانتظام، هنري جايمس، ديكنز، .. إلخ. "يا لهول المتعة الخصبة التي تمنحني الكتبُ إياها. عندما عدتُ، وجدت طاولتي ملأى بها (...) أعتقد أن بإمكاني العيش هنا سعيدةً والقراءة حتى انتهاء الزمن". وفي اليوميات، ثمّة أيامٌ عابرةٌ لا نعرف عنها الكثير، وسنوات مقلّة، فهي تدوّن حسب مزاجها المتقلّب جدا، وانشغالها بالكتابة أو بالقراءة أو بمقالاتها النقدية أو بالسفر. لكنها تتحدّث أيضا عن الصداع التي قد يلقيها في فراشها عدة أيام، وعن الدُوار وانعدام الشهية، وفترات الكآبة أو الإنهاك التي تطول أحيانا. هذه امرأةٌ لا تكفّ عن التفكير: في موضوع، في عبارة، في كلمة، في شخصية، قلقة ومتوترة، تمرّ خلال عملية الكتابة بحالاتٍ متناقضةٍ من الحماسة والخيبة، اللامبالاة والانخراط الكامل. "في ما يخصّ كتابي المقبل، سوف أمتنع عن كتابته حتى يفرض نفسه عليّ، حتى يثقل في رأسي كحبة إجاصٍ ناضجةٍ، متدلّيةٍ، ينبغي قطافها قبل لحظة سقوطها".
تروي يوميات فيرجينيا وولف 22 عاما من حياتها، نظرتها إلى العالم وقلقها من وصول هتلر إلى السلطة وبداية الحرب العالمية الثانية. وفي النهاية، نسمعها تفكّر: "لكن، ما سيكون مصير كل هذه الدفاتر، تساءلتُ يوم أمس، إذا متّ، ما الذي سيفعله ليو (ليونارد) بها؟ سيتردّد في إحراقها. ولن يمكنه نشرها. إذًا فليصنع منها كتابا، وليُحرق ما تبقّى. أعتقد أنه مع ترتيب الملاحظات والشطوب قليلا، ستوجد مادة لكتاب صغير. من يدري؟ تملي عليّ ذلك الكآبة الخفيفة التي تلفّني أحيانا، وتدفعني إلى الاعتقاد بأني عجوز، دميمة، ألتّ وأعيد الكلامَ نفسه. ومع ذلك، لديّ انطباع بأنني الآن فقط أتمكّن من الكتابة بحسب تفكيري".