ولكنهم فقراء أيضاً
لا أحاول أن أعيد اختراع العجلة، عندما أقرّر أن الفقر أساسٌ لمشكلاتٍ كبيرةٍ كثيرة يعاني منها البشر، منذ وجدوا على الكرة الأرضية، فهو قديم جدا قدم الإنسان. ومع كل التقدّم الذي حقّقه في حياته، ما زال الإنسان عاجزا عن حلّ معضلة الفقر حتى في أغنى البلدان.
ولم يعد الفقر يعني شعور المرء بعدم قدرته على تلبية حاجاته الأساسية من الطعام والمأوى والملبس وحسب، بل أصبح معقّدا في عالم شديد التعقيد، فكلما تعدّدت حاجات البشر في الحياة، وفقا لتطوّرها وتنامي مناشطها، ازداد مفهوم الفقر توسّعا!
كنت أتجادل وزملاء، قبل أيام، في تعريف الفقر، وما إذا كان أي إنسانٍ يصف نفسه بالفقر يحقّ له أن يحصل على مساعداتٍ ممن يُبادر إلى تقديم مثل هذه المساعدات بأشكالٍ مختلفة. وللأسف، لم نصل إلى تعريفٍ محدّد، وخصوصا أن الصورة التقليدية للفقير ما زالت ثابتة في الوعي الجمعي لدينا.
ما زال الفقير هو الذي يرتدي ما قلّ ودلّ من الثياب الممزّقة، والتي لا تكاد تستره، بشعر أشعثٍ وقدمين حافيتين، وعينين منكسرتيْن، وصوتٍ مهزوم. وغالبا ما توضع تلك الصورة على خلفية حروبٍ طاحنةٍ أو ثلوج قاتلة أو حرائق وبيوت مهدّمة، أو أكواخ مهلهلة، أو كوارث طبيعية. المهم أن صورة الفقير تكاد تكون واحدةً، بغض النظر عن جنسه أو جنسيته أو خلفيته الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية. انظر على سبيل المثال إلى الصور التي تنشرها اللجان الخيرية بحملات التبرّعات في كل مكان، لتستعطف بها الناس وتحثهم على التصدّق أو التبرّع لهؤلاء الجوعى العراة، تجد أنها ساهمت بتقنين فكرة الفقر التقليدية، كما ساهمت بتوسيع رقعة الفقراء الحقيقيين الذين لا ينتمون لتلك الصورة، ولكنهم مع هذا فقراء!
نعم ... بيننا أفراد يرتدون ملابس لا تختلف عن ملابس بقية أفراد المجتمع، ويملك بعضُهم سيارات، ويسكنون بمنازل لا بأس بها، سواء مُلكا لهم أو بالإيجار، وتزيد دخولهم الشهرية عن المعايير الدولية العامة للفقر. ومع هذا، هم فقراء حقيقيون، إن قارنتَهم بمن حولهم في البلاد ذاتها. فليس الفقير هو من لا يملك قوت يومه وحسب، وليس الفقير هو من يمشي حافي القديمن لأنه لا يملك حذاء، أو من لا يستطيع استخدام وسيلة مواصلات ويقضي مهامه الحياتية مشيا على الأقدام، أو من لا يجد طعاما يأكله فينام جائعا، وحسب، ومن لا يملك أن يعلّم أبناءه في المدارس أو الجامعات من دون أن يلجأ إلى الاقتراض، ومن لا يستطيع توفير الحدّ الأدنى من الترفيه لعائلته، ومن لا يستطيع أن يعالج أسنانه، إذ يعتبر بعضهم ذلك النوع من العلاج ترفا، فقير أيضا. بل من لا يستطيع أن يعيش في بيئة مكيّفة في بلاد تتجاوز فيها درجة الحرارة في الصيف الخمسين درجة، ومن لا يستطيع السفر عندما تقتضي بعض الأمور سفره لا يمكن إدراجه خارج نطاق الفقر! ومن المهم أن نفهم أن الفقر ليس فقط عدم وجود الدخل الكافي، بل يتضمّن أيضًا عدم الوصول إلى الخدمات الأساسية والفرص الاقتصادية والاجتماعية.
والفقر نسبي، ولا يمكن أن نطبّق المعايير الدولية للفقر في دول الخليج على سبيل المثال، كما نطبّقها في بلدان فقيرة أو حتى متوسّطة. أقول ذلك لمن يستكثر على الفقراء في بلداننا الغنية بعض مظاهر الحياة التي يرونها لا تشبه الصورة النمطية للفقير. فكثيرون متعفّفون وعزيزو النفس، وبالتالي، ليس من حقّ الآخرين الحكم عليهم وعلى أحوالهم المادية بمجرّد النظر إلى ملابسهم وكيفية معيشتهم الظاهرية، ما يؤثر على أحقّيتهم في تلقّي المساعدات، كما يساهم بإشاعة حالة من التشكيك بهم وبأعمالهم أيضا. إنهم فقراء أيضا ... وإنْ بدوا على غير ما تظنّون!