وفعلتها قطر!

24 نوفمبر 2022
+ الخط -

سيمضي وقت طويل جداً ربما قبل أن نستوعب، نحن العرب، ما الذي أحدثته فينا استضافة قطر بطولة كأس العالم لكرة القدم، باعتبارها نادرةً لم يكن أكثر المتفائلين بمستقبل الرياضة العربية، قبل عشرين عاماً فقط، ليصدّق أنها ستحدُث، وأن بلداً عربياً صغير الحجم، وفقاً لقياسات الخريطة، سيفعلها! لكنه فعلها.

فعلتها قطر، إذن، وأتت بأجمل بطولة رياضية إلى ديارنا العربية، رغماً عن أنوف من يعتبرون أنفسهم وحدهم لهم الحق بتوزيع متعة استضافتها على بلدانهم الأوروبية والأميركية، متفضّلين أحياناً على بلاد أخرى في آسيا وأفريقيا لذرّ غبار الكرة في عيون أحبابها في العالم كله.

بعيداً عن معطيات الرياضة بشكل عام، وكرة القدم بشكل خاص، يمكننا منذ الآن أن نرصد إيجابياتٍ حصدناها وسنحصدها، نحن العرب، من هذا الحدث الكبير! فربما ستكون من المرّات القليلة أو النادرة التي يجمع فيها العالم على الحديث عن العرب، بعيداً عن الصورة النمطية الحديثة، فلا إرهاب، ولا تفجيرات، ولا لجوء، ولا فقر ولا تطرّف! بل كرة قدم ولاعبون وجماهير تستمتع من على المدرّجات بأداء فرقها المفضّلة في بيئة جميلة ووسط أجواء رائعة. وهو ما سيقدّم صورة جديدة، حقيقية هذه المرّة، عن العرب، وعن المسلمين أيضاً، لا باعتبارهم متطرّفين كارهين للحياة، بل باعتبارهم جزءاً كبيراً من المنظومة البشرية العاشقة لفنون المستديرة السارّة، وهم لا يديرون ظهورهم للحياة المدنية، ويعيشون في خيامهم وسط الصحراء قريباً من آبار النفط التي يتحكّمون من خلال امتلاكهم بمفاتيح اقتصاديات العالم كله، بل يعشقون صحاريهم ويحملون عبقها في وجدانهم، حتى وهم يجدّدون مدنهم القديمة ويبنون أخرى حديثة، من دون أن ينسوا خيامهم أو إبلهم أو صحاري البهاء في أراضيهم الحرّة.

وهكذا سيتعرّف العالم كله على قطر، وعلى العرب عموماً، بمنظور حقيقي هذه المرّة، بعيداً عن التوجيه المسبق والدعايات السوداء والشيطنة التي مارسها الإعلام الغربي الموجّه ضد بلداننا وثقافتنا وحضارتنا وديننا عقوداً طويلة، ما ساهم في صنع فجوة كبيرة بيننا، نحن الشعوب، نتشارك فرص العيش على هذا الكوكب. ومن الواضح أن ذلك الإعلام الموجّه بقي حتى آخر لحظة قبل افتتاح البطولة، بل وبعد ذلك أيضاً، يمارس الدور نفسه في الشيطنة والتشويه والبحث عما يمكنه أن يسهم في محاولة التنغيص على فرحتنا، نحن العرب، باستضافة هذه البطولة على الأقل.

وحسنا فعلت قطر عندما استثمرت حفل افتتاح هذا الاستحقاق العالمي، والذي تشاهده عيون العالم كلها تقريباً، بتقديم صورة مصغّرة وحقيقية تعبّر عن الإنسان العربي من خلال رسائل جميلة لا بد من أنها ستصل إلى العالم، وستزيل عنه بعضاً من تلك الغشاوة التي تراكمت على مدى تلك العقود الطويلة من الزيف الإعلامي. فظهرت المرأة العربية الحقيقية، على سبيل المثال، بزيّها المحتشم وصورتها الشامخة بعيداً، وليست صورتها المغوية المستلة من دفاتر رسومات المستشرقين. وها هو بيت الشعر التقليدي وقد احتضن حداثة الكون كلها في قلب ملعبه، وعلى هوامش مدرّجاته، وها هو الجمل العربي رمزاً للصبر والقوة والتحمّل متساوقاً مع معطيات النفط وهداياه المادية، شوارع ومبانٍ ومتاحف ومسارح وسيارات وقطارات وآداب وعلوم وفنون. أما عبارة الله أكبر، فهي مفتتح الأذان وعلامة التسليم الكامل لله الواحد الأحد، ولن يبقى لحوار البشر تحت ظلال الآية الكريمة "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" غير معنى هذا الدين العظيم في مساواته بين البشر تحت سماء التقوى وحدها!

وهذا ليس كل شيء في بطولة كروية استكثرها الغرب على العرب، فأثبت العرب، ممثلين بالقطريين، أنهم أكبر منها بكثير. ما زلنا في أسبوعها الأول.. وعلى الوعد!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.