وحدة مغاربية .. ولكن في الأزمات
عاد الخلاف الجزائري المغربي إلى الواجهة، وتصاعد بشكل متسارع، بداية من قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ومرورا بتوقف ضخ الغاز عبر أنبوب المغرب العربي الذي ينقل الغاز الجزائري نحو أوروبا عبر الأراضي المغربية، ووصولا إلى إعلان الرئاسة الجزائرية عن مقتل ثلاثة من مواطنيها في قصف مغربي وصفته بالهمجي.
هكذا تتطوّر الأحداث نحو الأسوأ في العلاقة بين الجارين الكبيرين في المغرب العربي، ما يوحي بمزيد من التوتر الذي ستكون له آثاره على كل المنطقة، ويدفعها نحو مزيد من الأزمات، وهي التي لم تعرف الهدوء منذ بداية سنوات الاستقلال.
وبمتابعة العلاقة بين الدول المغاربية، ومنذ استقلال أول دولة منها (ليبيا 1951) إلى آخر دولة (الجزائر 1962)، تلاحظ حالة من التوتر والأزمات المتصلة، حيث كانت علاقات حُسن الجوار الاستثناء وليست القاعدة، فبعد استقلال الجزائر بأشهر قليلة، اندلعت بينها وبين المغرب حرب قصيرة (المسمّاة حرب الرمال). وعلى الرغم من توقيع اتفاق سلام بين الطرفين، إلا أن مفاعيل تلك الحرب ما زالت مؤثرة، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة. ولأن محور أي تعاون مغاربي شامل لا يمكن أن يتحقق إلا بتوافق جزائري مغربي، فيمكن القول إن هذا الحلم سيظل معلّقا إلى أجل غير مسمى.
بإلغاء اتفاق نقل الغاز الجزائري عبر الأنبوب المغربي، تكون أكبر الشراكات الاقتصادية بين البلدين قد انتهت
ظلت العلاقات بين الجزائر والمغرب محدودة جدا، وكانت الحدود البرّية مغلقة بينهما منذ سنة 1994، والتبادلات التجارية تكاد تكون منعدمة، عدا عمليات التهريب. وبإلغاء اتفاق نقل الغاز الجزائري عبر الأنبوب المغربي، تكون أكبر الشراكات الاقتصادية بين البلدين قد انتهت، وإذا أضفنا إليها محاولات التصعيد الحدودي يكون مشهد العلاقات المتوترة بين البلدين قد وصل إلى مداه الأقصى. ومن الصعب الحديث عن خفض التوتر بين نظامين يتوارثان الأزمة منذ بدايتها، بل تحولت إلى مصدر للتعبئة الوطنية والتجييش الداخلي ضد عدو خارجي، هو الجار القريب.
لا تخرج باقي الدول المغاربية عن سياق الأزمات الشاملة نفسها، حيث ما زالت ليبيا تبحث عن توازناتها الداخلية، وما تفترضه من إيقاف الحرب الأهلية وإنهاء وجود المليشيات والمرتزقة، وهو ما يحتاج إلى بعض الزمن ليتحقق. وهذا البلد الذي شهد تدخلاتٍ من دول شتى، كانت دول الجوار المغاربي الأقل تأثيرا في صناعة قراره، على الرغم من الجيرة والمصير المشترك. وهكذا وجدت ليبيا نفسها بعيدة عن التطلعات المغاربية المشتركة، وهو ما ينطبق على الحضور الموريتاني، وإن بشكل مغاير، حيث ظلت هذه الدولة، بحكامها العسكريين المتوالين، في حالة من الانكماش الدبلوماسي في علاقتها بباقي الدول المغاربية. أما تونس فقد ضاعفت أزمتها الراهنة من فشلها الدبلوماسي، وتحوّلت من خطها القائم على الحياد الإيجابي والحفاظ على علاقات متوازنة مع كل جيرانها إلى اتخاذ موقف في مجلس الأمن، أثار حفيظة الطرف المغربي وسيكون له بالتأكيد تبعات في مستقبل العلاقات بين البلدين.
لا أحد يستفيد من الأزمات المغاربية المتصلة إلا الذين صنعوها، وهم بقايا الاحتلال القديم وأنظمة سياسية عفا عليها الزمن
كل هذه الأزمات التي تشق المنطقة المغاربية، وتدفعها إلى التصدّع، تجعل من فكرة الوحدة أو على الأقل التعاون الاقتصادي بين بلدانها أبعد منالا مما كانت في أي وقت. وشعوب المغرب العربي هي بالتأكيد الخاسر الأكبر من هذه الأزمات، وعوضا عن تقارب هذه الدول لبناء قوة وازنة في عصر التحالفات والقوى الإقليمية، نجد الأنظمة السياسية تندفع بحثا عن حلفاء وحماة من خارج الإقليم، من دون أخذ بعين الاعتبار للمخاطر الناجمة عن مثل هذه السياسات. ألم تكن حالة الفراغ التي تعانيها منطقة المغرب العربي المدخل الذي جعل ليبيا مجالا مفتوحا لمرتزقةٍ من تشاد والنيجر والسودان وروسيا، ومجال نفوذ لدول شتى من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فيما الوضع الليبي على مرمى حجر من العواصم المغاربية المختلفة؟ أليس غريبا أن دولا تملك تاريخا واحدا، وذات امتداد جغرافي وبنية سكانية متماثلين، وإرثا ثقافيا مشتركا، تتصارع وتتقاتل بسبب خلافات اصطنعها الاحتلال قبل رحيله، وحوّلتها الأنظمة التي جاءت بعده إلى قضية تاريخية مصيرية، ومسألة وطنية تسيل دونها الدماء، وتُقطع العلاقات، ويُستعان بالأجنبي من أجلها؟
لا أحد يستفيد من الأزمات المغاربية المتصلة إلا الذين صنعوها، وهم بقايا الاحتلال القديم وأنظمة سياسية عفا عليها الزمن. أما الشعوب فهي تنظر بعيون حالمة إلى مستقبلٍ قد يجمع بينها يوما، إذا استطاعت أن تتحرّر من هذا الإرث السياسي البغيض من العداوات والصراعات، وهو لا يمتد بعيدا في الزمن، بقدر ما يجد جذوره في طبقات سياسية تتوارثه وتحرص عليه خدمة لمصالحها.