هل يُنهي اتفاقٌ سياسيٌ حرب السودان؟
يدور حديثٌ عن مفاوضاتٍ غيرَ مباشرة، وبشكل سرّي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تجري الآن. ورغم عدم تأكيد أيّ جهة، رسمياً، استئناف المباحثات، إلا أنّ الأمر ليس مُستبعَداً، فقد جرت جولات تفاهم وتفاوض سرّي عديدة بين المتحاربين منذ بداية الحرب، ولم يُعلَن عن بعضها بشكل رسمي، رغم تسرّب أخبارها للإعلام.
لكن، هل يمكن لاتفاقٍ أن يؤدّي إلى إنهاء الحرب؟... بعد أكثر من عام، ربّما لم تعد الإجابة حاسمة كما كانت في الأيام والأسابيع الأولى للحرب. المعارك التي بدأت علناً في 15 إبريل/ نيسان 2023، كانت نتيجة مباشرة للخلاف بين الجنراليْن القوييْن، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ونائبه قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي). صراع سلطة بين الرجليْن، بدأ مُبكّراً وتصاعد، رغم تنفيذهما، معاً، انقلاباً عسكرياً على الحكومة المدنية الانتقالية.
تقارب قائدي الجيش و"الدعم السريع" وتباعدهما أكثر من مرّة منذ صعودهما إلى السلطة، بعد إطاحة نظام الرئيس السابق عمر البشير في 2019. وسعى رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، والقوى السياسية المدنية، وبعثة الأمم المتّحدة، إلى تخفيف التوتّر بين القائديْن الطموحيْن، لكنّ كلّ جهودهم انتهت بالفشل. وقبل الوصول إلى اتفاق سياسي كامل بتسليم السلطة الانتقالية للمدنيين، اندلعت الحرب. في بداياتها، كانت توصيفات الطرفين للحرب مباشرة ومختصرة. تعدّ قوات الدعم السريع نفسها في حالة دفاع عن النفس، إذ هوجمت في مقارّها، حسبما تزعم. لذلك، تقاتل دفاعاً عن نفسها، حتّى تعتقل قائد الجيش وتحاكمه. هذا ما أعلنه حميدتي أكثر من مرّة في وسائل الإعلام في أيام الحرب الأولى. بينما وصف الجيش الحرب بأنّها تمرّدُ قوات الدعم السريع وسيُحسم خلال ساعات. بل أعلن أكثر من "خبير عسكري" انتهاء الحرب، أكثر من مرّة في العام السابق. وهو ما كان يبدو منطقياً جدّاً بالقياس إلى قوّة الطرفيْن المُتقاتليْن، وتميل موازين القوّة لصالح مؤسسة الجيش. لكن هذه التوصيفات تغيّرت، خلال الشهور الـ 14 الماضية، وانخرطت قوات الدعم السريع في محاولة إيجاد مشروعية لعمليات النهب والتدمير والقتل، التي تقوم بها في مناطق عديدة من البلاد، فأنتجت سرديات عن "محاربة فلول نظام عمر البشير"، و"الحرب ضدّ إرهابيي الحركة الإسلامية السودانية"، و"تدمير دولة 1956 (تاريخ استقلال السودان)"، و"إقامة دولة ديمقراطية". بينما طوّر الجيش السوداني سرديّته، من قوات تابعة للجيش تمرّدت عليه إلى حربٍ كونية تخوضها الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتّحدة والاتحاد الأفريقي، والإمارات وكينيا وتشاد، وغيرهم، ضدّ السودان طمعاً في استعماره واستتباعه، بتحالف مع القوى السياسية المدنية.
ولكن، على الأرض، يمكن أن نرى التطوّر الجديد للحرب. تطوّر طبيعي صنعه استطالة فترة الحرب، والانتهاكات المستمرّة والمتزايدة، والخطاب الحربي المسعور، فأصبحت الحرب مسرحاً لصراع دولي يتعاظم مع اتجاه سلطة الجيش في السودان إلى التحالف عسكرياً مع روسيا، بعد تطبيع العلاقات مع إيران. كما لم يعد من الممكن التحكّم في عمليات التجييش والتسليح الشعبي، خاصّة مع تعاظم خطر قوات الدعم السريع، التي تواصل اقتحام المدن والقرى. لم يعد "احتكار الدولة للعنف" ممكناً على أرض الواقع، وذعر المواطنين من انتهاكات "الدعم السريع" لا يسمح لهم بانتظار سلام لا يعلم أحد متى يأتي.
في وضع شبيه بالملاحم الإغريقية، تواجه المجتمعات السودانية تحدّيات التسليح للدفاع عن النفس، أو الاستسلام لجرائم "الدعم السريع"، التي تبدو بلا نهاية. ومع خيار الدفاع عن النفس والأرض، تظهر التباينات المجتمعية الخطيرة في نسيج المجتمع السوداني. ويزداد الاحتقان القبلي والمناطقي. وتنتشر في شبكات التواصل الاجتماعي فيديوهات التهديد لمواطني المناطق المختلفة.
تسرّبت حرب السودان خلال العام الماضي من بين يدي قادتها العسكريين، وما كان ممكناً في مايو/ أيار 2023، لم يعد سهلاً في مايو 2024، وبالتأكيد لن يكون مطروحاً في مايو 2025. وما كان يمكن أن يحسمه لقاء بين البرهان وحميدتي، يحتاج اليوم توافق عواصم عديدة. وإذا حدث هذا التوافق، سيجد كيانات مسلّحة عديدة في السودان قد لا تقبل به. لذلك، أيّ حديث عن اتفاق ينهي الحرب في السودان، يحتاج لتحديد: اتفاق بين مَنْ ومَنْ؟