معركة الخرطوم... السلطة للمنتصر

05 أكتوبر 2024
+ الخط -

انتقل الجيش السوداني في الأسبوع الماضي من عملية دفاع استمرّت أكثر من عام وخمسة أشهر، إلى الهجوم، محاولاً استعادة مناطق خسرها لصالح قوات الدعم السريع. وللمرّة الأولى تقريباً، يتواصل تقدّم الجيش مُحقّقاً انتصارات، مع تراجع وارتباكٍ ظاهرٍ في صفوف قوات الدعم السريع، التي خسرت كثيراً من قادتها الميدانيين في محاولة دخول مدينة الفاشر.
رغم عدم وجود أيّ تصريحات رسمية، من الواضح أنّ الجيش يسعى إلى السيطرة على قلب مدينة الخرطوم العاصمة، خاصّة المنطقة المركزية، التي تشمل القصر الجمهوري والقيادة العامّة للجيش. وهو يتقدّم بسرعة معقولة لإحكام الحصار على هذه المناطق. وستكون معركة الخرطوم حاسمةً، لأن سياسة السلطة العسكرية الإعلامية قائمةٌ على "تطبيع واقع الحرب" في المناطق الآمنة. لذلك تتصرّف الحكومة العسكرية في مناطق سلطتها بشكل يوحي بأنّ "الأوضاع مستقرّة"، فتُعلِن مواعيد العطلات الرسمية كأنّما دواوين الدولة تعمل بشكل طبيعي. ويصرّ وزير المالية على أنّ موازنةَ الدولة مستقرّةٌ، وتحصّل الجبايات من المواطنين.
لا تحمل ذاكرة السلطة العسكرية في السودان إلا تجربة حصر الحرب الأهلية في الأطراف البعيدة عن العاصمة، التي تسير الأمور فيها بشكل طبيعي، بينما تعاني الأقاليم من المجاعات أو الحروب، وهو ما يبدو أنّها تسعى لاستنساخه في هذه الحرب أيضاً. لذلك ستكون استعادة الخرطوم برمزيتها، وأيضاً أهمّيتها، موطناً لأكثر من ربع سكّان البلاد قبل الحرب، نقطةً فارقةً، قد يُعلِن الجيش بعدها أنّه انتصر في الحرب، حتّى لو استمرّت في مناطق أخرى. وهو انتصار مهمّ للجيش، حتّى لو لم تتوقَّف الحرب.
استعادة الخرطوم أيضاً ستحرم "الدعم السريع" من إعلان حكومةٍ موازيةٍ في مناطق سيطرته، بما يشمل العاصمة المُحطَّمة. وهو إعلان تسرّبت أحاديث كثيرة عن قربه، خاصّة مع تعسّر إعلان الجيش حكومةً من بورتسودان. وهو تعسّر له عدة أسباب، من ضمنها، بحسب بعض المُحلّلين، عجز قيادة الجيش عن التوفيق بين طموحات حركات الكفاح المسلّح التي تقاتل معه، وطموحات القيادات الأهلية لشرق السودان، التي تعتبر أنها تستضيف السلطة في ديارها، وتريد في حال تكوين حكومة من بورتسودان أن يكون لها فيها نصيب الأسد.
لذلك يبدو مفهوماً لماذا استبق مساعد القائد العام للجيش الفريق ياسر العطا العمليات العسكرية الحالية بأسبوعين، وصرّح بأنّ قائد الجيش سيظلّ على رأس السلطة بعد نهاية الحرب، وحتّى بعد الانتخابات لثلاث أو أربع دورات انتخابية. وهو تصريح يحمل عدّة رسائل، أهمّها لحلفاء الجيش أنّ منصب رأس الدولة سيحتفظ به الجيش، فهو خارج المنافسة حتّى بالانتخابات. أمّا الرسالة الثانية فهي تأكيد موقف الجيش الثابت منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير.
رفض المجلس العسكري (كان يضمّ قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو وقتها)، تسليم السلطة للمدنيين، وفي سبيل ذلك ارتكب مذبحةً استهدفت تجمّعات المواطنين المُعتصِمين عند مقارّ الجيش، مطالبين بتنحّيه. عُرِفت المذبحة باسم "مجزرة القيادة العامة"، لكنّها استهدفت الاعتصامات في عدّة مدن. انتشرت تسجيلاتٌ لقوات الدعم السريع تنكّل بالمواطنين أمام مباني قيادة الجيش، بينما يقف الجنود خلف الأسوار يراقبون. ومن حاول الاحتماء بمباني الجيش قام الجنود بمنعه ودفعه خارجاً ليموت هناك. قُتِل أغلب الضحايا بالرصاص، وبعضهم بالضرب حتّى الموت. بينما ألقي عدد من الشبان أحياءَ مقيَّدين في النيل. حتّى هذه اللحظة تجهل مئات الأُسر مصير أبنائها الذين اختفوا في 3 يونيو/ حزيران 2019. وبعد يوم من التنكيل والإرهاب، خرج قائد الجيش ليُعلِن وقف التفاوض، والحكم بشكل منفرد مدّةَ عامين.
اضطر المجلس العسكري للتراجع لاحقاً، وقبِل شراكةً مع المدنيين، سرعان ما انقلب عليها، ودفع بالقوات الأمنية إلى الشوارع لتواصل قتل المُحتجِّين. في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، قتلت القوات الأمنية 15 مواطناً بالرصاص في مدينة الخرطوم بحري وحدها. وهي المدينة التي استعاد الجيش أخيراً مناطقها الشمالية، مُتقدّماً نحو العاصمة الخرطوم.
ستكون الأيّام القادمة حاسمةً. وربّما عند نشر هذا المقال تكون الأمور قد قاربت النهاية. ويتّضح لمن ستؤول الخرطوم المدمَّرة، التي يُكرِّر الجيش النداء لمن غادروها بأن يعودوا إلى المناطق التي حرّرها.
المنتصر في معركة الخرطوم سيُعلِن حكومته غالباً، ما لم تُؤجّل ذلك الخلافات الداخلية عند الطرفَين.