الاتفاق الإطاري يتيم... وألفُ أبٍ للبندقية
أعلن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أنّ العملية السياسية لتسليم السلطة للمدنيين، المعروفة اختصاراً بـ"الاتفاق الإطاري"، هي سبب حرب السودان. وكان عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) قد وقّعا وثيقة هذا الاتفاق في ديسمبر/ كانون الأول 2022. الأول عن القوات المسلّحة، والثاني عن "الدعم السريع"، كما وقّعتها عدة أحزاب وحركات مسلّحة.
وقتها وصف البرهان الاتفاق بأنّه "يصبّ في مصلحة السودانيين كلّهم، من دون إقصاء أحد"، وأكّد في حفل التوقيع أنّ واجب الجيش الالتزام بالمهنية العسكرية، والاعتراف بالقيادة السياسية للسياسيين، والإقرار بأنّ السلطة المدنية هي المسؤولة عن وضع غايات الأمن الوطني، وربطها بالسياستين الخارجية والعسكرية، ودعا القوى التي رفضت الاتفاق إلى توقيعه، إذ لا حجْر عليها، ثمّ ختم مؤكّداً: "من أجل هذا الوطن وإبراء جراحاته والحفاظ على وحدته واستقراره تم هذا التوافق". أمّا حميدتي فوصف الاتفاق بقوله إنّه "مخرج بلادنا من الأزمة الراهنة. وهو الأساس الوحيد للحلّ السياسي المنصف والعادل".
بعد أقل من أربعة أشهر اندلعت الحرب بين الجيش و"الدعم السريع". رغم ذلك، جدّد البرهان، بعد أسبوع من الحرب، في حديث إعلامي، التزامه بـ"الإطاري" وتسليم السلطة للمدنيين. وأكّد حميدتي أيضاً نيَّته دعوة المدنيين إلى استلام السلطة حال انتصاره... أسابيع، ثمّ تغيَّرت المواقف.
صرّح مساعد قائد الجيش الفريق ياسر العطا في مايو/ أيّار 2023 بأنّ الاتفاق الإطاري أتى لخدمة قوى الحرّية والتغيير، ولإقصاء الآخرين والانفراد بالسلطة. بعده بأسبوعين، ذكر البرهان في رسالة إلى الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غويتريس أنّ المبعوث الشخصي للأخير أجبر حميدتي على توقيع "الإطاري" من دون رغبته، "كراعنا فوق رقبتنا"، حسبما اقتبس البرهان في رسالته. اتفق المتقاتلان، في نهاية الأمر، أنّ "الإطاري"، الذي وقّعاه ومدحاه، كان سبب الحرب.
أمّا الحركة الإسلامية فرفضت الاتفاق مُبكّراً، وأعلنت أنّ هدفه تفكيك الجيش السوداني، وأنّ من خلفه أميركا وبريطانيا والإمارات ومبعوث الأمين العام للأمم المتّحدة. وهدّد القيادي الإسلامي، اللواء أمن أنس عمر، بدفن الاتفاق ومن وقّعوه، وفي حديث آخر، وصفه بأنّه ضدّ الدين والشريعة، وبأنّه يهدف إلى تفكيك الجيش والشرطة والمخابرات، ويهدم الأخلاق، ويروّج العلمانية، وهو رأي تبنَّته جماعات أكبر من الإسلاميين في تحالف عرف بـ"التيّار الإسلامي العريض".
في نهاية مارس/ آذار، كرّر القيادي الناجي عبد الله عدة تهديدات لـ"الإطاري" ومن وقّعوه. والناجي هو أحد قيادات مجموعة الدبابين الإسلامية المسلّحة، التي اعتمد عليها نظام عمر البشير لتقاتل مع الجيش في حرب الجنوب، قبل أن ينشئ مليشيا "الجنجويد" (قوات الدعم السريع لاحقاً) لتقاتل معه في حروب دارفور. ويتحالف الجيش اليوم مع مليشيات الحركة الإسلامية من "دبابين" ولواء البراء بن مالك، وغيرهما، ومع الحركات الدارفورية (المشتركة) لقتال الدعم السريع.
في آخر خطابات الناجي عبد الله هاجم "الإطاري" والبرهان وحميدتي و"الحرّية والتغيير" ومبعوث الأمم المتّحدة، وهدَّدهم بأنّ الأفضل لهم "أن يبلّوه ويشربوه اليوم قبل ألّا يجدوا وقتاً لذلك". بعد 15 يوماً من التهديد، اندلعت الحرب بين الجيش و"الدعم السريع"، وكانت الحركة الإسلامية هناك؛ وبحسب فيديو بثّه تلفزيون العربي، تسلّم عناصرَ من لواء البراء بن مالك أسلحتهم من الجيش صبيحة يوم 15 إبريل/ نيسان، في الساعات الأولى للحرب. كان الجيش أول من انقلب على "الإطاري" وكال له التهم. ثمّ بعد 18 شهراً من الصمت لحقت به قوات الدعم السريع. أمّا الحركة الإسلامية فلم يتغيّر موقفها قط.
كان ممّن رفض الاتفاق وقتها، من المنخرطين الآن في الحرب، اثنان من أهم حركات الكفاح المسلّح الموقّعة على اتفاق السلام؛ القائد مناوي (حاكم إقليم دارفور)، وجبريل إبراهيم (وزير المالية الحالي منذ حكومة حمدوك)، فقد رفضا توقيع أيّ اتفاق سياسي ينصّ على "مراجعة اتفاق السلام"، وحذّرا من المساس بالاتفاق، حتّى لو للتقييم. لكن موقفَي الحركتَين، قبل الحرب وبعدها، يأتيان في سياق منفصل عن مواقف بقيّة المتقاتلين، يحتاج ذلك تفصيلاً في مساحة أخرى.
توحّد (علناً) الآن موقف الجيش والحركة الإسلامية مع موقف "الدعم السريع" من الاتفاق، الذي كان سينزع من الطرفَين السلطة لصالح المدنيين. فهل يقرّبهما ذلك من المصالحة، ويدينان المدنيين كما ظلّا يفعلان منذ 2019؟