حميدتي... العودة إلى الخطة "ب"

12 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

لو كانت الحياة تسير في النسق الروائي لكان خطاب قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، آخر خطاباته العلنية، وتنتهي بعده قصّته بنهايةٍ دراميةٍ تُشعِر القارئ بالرضا. لكن الحياة (رغم سخائها الفنّي) لا تسير عادة في هذا الشكل. ويبدو "حميدتي" في هزيمته مصمّماً على الإيذاء.

خلال 18 شهراً مضت، ظلّ خطاب "الدعم السريع" الرسمي مُكبَّلاً بكثير من الدبلوماسية التي غابت عن الطرف الآخر. ويبدو الرجل في خطابه أخيراً قد تخلّص من سلطة المستشارين وشركات العلاقات العامة، التي كانت تحاول إعادة تسويقه محارباً من أجل الديمقراطية، وارتدّ إلى ما يعرفه من خطاب قَبَلي تحريضي يرمي اللوم على العالم كلّه، ويعتبر نفسه "ابن البادية البسيط، الذي لم ينل من الدولة إلا عُنفها".

يظهر الرجل في التسجيل الطويل سيئ المونتاج غاضباً من المجتمع الدولي، ويكيل له الاتهامات، ويشير إلى اتهام القوى المدنية اتّهاماً لها، ويقول إنّ الاتفاق الإطاري هو سبب الحرب. وهو هنا يزاحم خصمه في ساحته، فهذه الاتهامات ظلّ الجيش يردّدها ضدّ الجميع، ويلقي تهم التآمر ضدّه على العالم والمؤسّسات الدولية والأحزاب السياسية. خلال هذا الوقت كلّه، ظلّت "الدعم السريع" تمدح المجتمع الدولي ودول الجوار، لكنّها الآن ترجع إلى العقلية الطبيعية التي تربى عليها قادة الحرب كلّهم، عقلية نظام البشير/ الحركة الإسلامية الممتلئ بعداء العالم، والمولع بخوض المغامرات، والتعويل على التحالفات الدولية وتناقضاتها لتعزيز سلطته. وهو رجوع متأخّر على مستوى الخطاب، أمّا الأفعال فلم تتغيّر، منذ كانت "الدعم السريع" ترتكب الجرائم في دارفور لحساب النظام الحاكم، وحتّى أصبحت ترتكبها لحسابها الشخصي في أنحاء السودان كافّة.

منذ ظهوره في الساحة السياسية، ظلّ قائد "الدعم السريع" يشكو من آخرين يشوّهون صورةَ قوّاته، ويلصقون بها الانتهاكات. لم يتوقّف الرجل 20 عاماً عن لوم الآخرين. كانت الحركة الإسلامية ورموزها يؤيّدون هذا الخطاب قبل سقوط نظام عمر البشير، ويقولون إنّ قوات الدعم السريع مستهدفةٌ بالأكاذيب والشائعات. عقب الثورة، واصل قادة الجيش ذات التأييد لهذه الاتهامات. لكنّ حميدتي في ظهوره أخيراً أشار إلى أنّ حلفاء الأمس يطلقون ضدّه الشائعات. وبدا مستعطفاً المواطنين، وهو يشكو من محاسبته بما ارتكبه مَنْ سرقوا البيوت والممتلكات الخاصّة، ويطلب عدم تحميله جرائمهم، ويتحدّى مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، مولي في، أن تُكذِّب بعض ما قال (!) ويستشهد بقادة الجيش، الذين توعّدهم سابقاً بالمحاكمة، أن يقولوا كلمة الحقّ، وأنّه كان رافضاً لاتفاق تسليم السلطة للمدنيين، ثمّ يوجّه الاتهام إلى مصر ليبرّر هزيمة قوَّاته.

لا جديد في لغة الخطاب إلّا العودة إلى الخطاب التقليدي. أمّا موضوعه فهو إعلان خسارة معاركَ ومواقعَ مهمّةٍ عجز عن استردادها، وخسارة مقاتلين حتّى لجأ إلى إعلان التعبئة في خطاب استعطافي، وادّعى أنّه بلا حلفاء بينما يقاتل جيشاً معه سبع دول، ويبدو أنّ ذلك أكثر ما يوجعه. إن لم يكن هذا إعلان هزيمة فماذا يكون؟ لكنّ الرجل يقرّر أن يكون مؤذياً حتّى النهاية، مع مرارة الهزيمة البادية في الخطاب، يُصعِّد ضدّ المجتمعات المحلّية ودول الجوار. فمع خطابه صدر قرارٌ عن قيادة "الدعم السريع" في إقليم دارفور بحظر إدخال عددٍ من السلع إلى مناطق سيطرة الجيش منها الذهب، والصمغ العربي، والماشية، والسمسم، لا تبدو واضحة الآن قدرة "الدعم السريع" في تنفيذ هذا الحظر، لكنّه مُؤشّر لعدم استقرار الإمداد من هذه السلع، ممّا يؤثر في المستوردين.

كما جاء في الخطاب استهداف عِرقي واضح تجاه واحدة من أكبر وأكثر قبائل شمال السودان أهمّية، وهو تهديد للمناطق التي طالما هدّد مقاتلو "الدعم السريع" بنقل الحرب إليها وحرق نخيلها. لم تكن تلك جملةً عابرةً، بل رؤيةً كاملةً للعالم حاول قائد "الدعم السريع" تغطيتها بالمستشارين وشركات العلاقات العامة، لكنّها ما كانت لتُخفَى طويلاً، فعاودت الآن الظهور.

ما سمّاه حميدتي الخطّة "ب" هو التخلّي عن محاولة التنظير لحربه، والعودة إلى الخطاب العشائري التدميري. خطاب تمارسه قوَّاته في الأرض منذ تكوينها. لكن هل ما زال في إمكان الرجل أن ينفّذ أيَّ تهديد؟ ... حتّى هذه اللحظة، يبدو قادراً على الإيذاء، أمّا حلمه بالحكم فيبدو أنّه مات، أو يحتضر، لذلك يحاول إنعاشه بمزيد من الحرب والفوضى.