هل ينفرط الاتحاد الروسي؟
أحجم الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، عن المواجهة العسكرية مع روسيا، بعدما اقتحمت قوات فلاديمير بوتين حدود أوكرانيا المجاورة، واجتازتها، وهي تزحف ببطء نحو المدن الكبرى، لكنّ الولايات المتحدة اختارت نوعاً آخر من المواجهات، بحيث لا تستخدم أسلحة يمكن أن تؤدّي إلى دمار شامل، يكلف الكوكب كله ثمناً باهظاً. تريد أميركا أن تردّ الصفعة إلى بوتين بتطبيق عزل تجاري ومالي على روسيا، وتحويل اقتصادها إلى اقتصاد منبوذ. وكعادتها، وهي التي لا ترغب في السير وحيدة في حروبها، لجأت الولايات المتحدة إلى تجنيد معظم الدول لتطبق عملية خنق اقتصادي متصاعد على روسيا، وجعلها غير قادرة على دفع فواتيرها العسكرية والسياسية .. بدأت إدانة الغزو بشكل تقليدي من مجلس الأمن، وهناك كان الفشل مؤكّداً، حيث عضوية روسيا الدائمة. وجاءت الخطوة التالية بدعوة الجمعية العامة لتأخذ الموقف المُدين نفسه، وهو اجتماع قلما يلجأ إليه مجلس الأمن، لكنّه فعلُ توكيدٍ لخطورة الموقف، وحصل قرار الجمعية العامة على أغلبية عارمة، رغم تعديل بعض الأعضاء مصطلحاته، ليخفف كلمة الإدانة إلى شجب، لكنّها كانت الخطوة السياسية الأولى الممهدة والموازية لفعل اقتصادي.
ركزت الجهود الأميركية على قطاع المصارف الروسية، وهو المنبع الذي يستجرّ نظام بوتين منه التمويل اللازم لتغذية حربه، ففصلت نظام سويفت العالمي عنه، وشلّت القدرة الروسية على الوصول إلى احتياطياتها النقدية الموجودة في العالم بشكل كامل، وبدأت الشركات العالمية الكبرى إيقاف أعمالها في الأراضي الروسية، ومنها شركات سيارات، وطائرات، وشركات تستثمر في مجال الترفيه والسينما... يجعل هذا المناخ الذي أدار ظهره للاقتصاد الروسي الحركةَ المالية والإنتاجية فيه عاجزة عن التحرّك والنمو، فروسيا غير قادرة على الاستيراد والتصدير بعد منعها من عمليات التحويل إلى الداخل والخارج، ما ينشئ حمولات إضافية على عملتها التي تشهد هبوطاً جديداً كلّ يوم. لكن يبقى لروسيا ما بقي من جمهورياتها السابقة على ولائه القديم، إلى جانب الدول المهمة التي امتنعت عن التصويت في الجمعية العمومية لصالح إدانة الخطوة العسكرية الروسية، وأبرزها الصين والهند وباكستان.
يريد الغرب الآن أن يحوّل روسيا إلى جزيرة معزولة لا تستطيع التواصل سياسياً ولا اقتصادياً مع أحد، ليصغر نصف قطر تحرّكها، وهي بالتأكيد ستبذل جهوداً كبرى للحفاظ على ما لديها. لكنّ الجو لا يبدو ملائماً، فقد استغلت كلٌّ من جورجيا ومولدافيا، وهما جمهوريتان سوفييتيتان سابقتان، الوضع، لتقديم طلبات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يمكن أن يُعدّ مقدّمة للانضمام إلى حلف الناتو. وكانت روسيا قد افتعلت سابقاً أحداثاً في جمهورية جورجيا كالتي أشعلها في الدونباس، لإبقاء السلطات السياسية فيها منشغلةً بوضعها الداخلي، ومتطلّعة إلى روسيا، لتساعدها في إيجاد الحلول، وأحداث أخرى قد جرت في جمهورية كازاخستان الواقعة على حدود روسيا الجنوبية، جرى استيعابها بسرعة، بعد مساعدات عسكرية واستخباراتية روسية، والأمر مفتوحٌ على بقية الجمهوريات الطموحة، التي ترغب في الخروج من العباءة الروسية.
لن تفرّط الصين، ولا حتى الهند، بعلاقاتهما المميزة مع روسيا، الأمر الذي سيساعد بوتين على مزيد من المقاومة، لكنّ إحداث تغييرات قوية في مجموعة الجمهوريات السوفييتية السابقة، التي طالما شكّلت حصانة لروسيا، يمكن أن يجعل عرش القيصر يهتزّ، فالمساعدة والدعم الحقيقي لروسيا يأتيان من هذه الجمهوريات. وعلى هذا الأساس، يتمسّك بوتين بقوة لبقاء أوكرانيا إلى جانبه، ويحاول توريط بيلاروسيا في الصراع، للاحتفاظ بها، وعينُه على مناطق الالتهاب القوية. وعليه الآن أن ينظر نحو مولدافيا، دولة أوروبا الشرقية التي بدأت فيها بوادر حركة نحو الغرب، وكذلك جورجيا. وإذا نجحت الولايات المتحدة في إدارة هذا التمرّد لصالحها، فقد ينفرط عقد هذه الجمهوريات، وتنفلت من المدار الذي يشكل بوتين مركزاً فيه، الأمر الذي قد يفتح المجال واسعاً لبداية انفراط الاتحاد الروسي نفسه.