هل يقفل بايدن ولايته بحرب مباشرة؟
أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، انسحابه من السباق الرئاسي قائلاً هذا "من أجل مصلحة حزبي وبلدي". وذلك قبل أربعة أشهر من ذهاب الأميركيين إلى صناديق الاقتراع. وبتمهّلنا في قراءة تلك الكلمات المُقتضبة، نجدها تحمل رسائلَ ذاتَ أبعادٍ عسكريةٍ تُعلن الاستعداد للحرب؛ إذ يتوقَّف المُتابعُ عند مفهوم "المصلحة"، التي ذكرها بايدن ليبني عليها قراءته، في ظلّ "المعمعة" الانتخابية، إذ يخوض حزبُه معركةً رئاسيةً مع المُرشّح الجمهوري دونالد ترامب، الذي أقلّ ما يُقال فيه أنّه مُثير للقلق في حال فوزه، كما في حال هزيمته.
منذ تولّي بايدن ولايته عام 2020، بعد فوزه على ترامب أيضاً، حملت إدارته سلسلةً من العناوين، أخطرها التي بدأت بتنفيذها، والمُرتبطة برسم سياسة "الاحتواء" للدول الصاعدة، في مقدمتها روسيا والصين. لكنّ المحور الصاعد عمل على تشكيل حلفٍ من مجموعة دول تحمل في طروحاتها العداء لأميركا، وقلب النظام الدولي، وجعلِه متعدّدَ الأقطاب. لهذا اجتمعت كلٌّ من روسيا والصين وكوريا الشمالية ودول أفريقية، في مقدّمتها النيجر، إلى جانب فنزويلا، في تحالفٍ مُوحَّدٍ يهدف إلى تقويض النفوذ الغربي في العالم.
لم يختلف صراع الشرق الأوسط عما يحدث في أوكرانيا، فاستطاعت إدارة بايدن "إيجاد" زيلينسكي جديد لها، ممثّلاً في نتنياهو
اعتمدت الإدارة الأميركية السياسة ذاتها تجاه الدول الصاعدة، فأوجدت عقباتٍ إقليميةٍ أمام صعودها، فدعمت شبه جزيرة تايوان في وجه التنّين الصيني، وجعلت من الجزيرة منطقةً عائمةً على السلاح. ولأنّ القائد الفرنسي نابليون بونابرت كان قد حذّر سابقاً من المارد الصيني إن استيقظ، أسّست الولايات المتّحدة حلف كواد، يضمّ إليها أستراليا واليابان والهند، لتطويق بكين إقليمياً.
استطاعت الولايات المتّحدة إيجاد حالات فوضى في أكثر من ساحة دولية، لا سيّما في شرق أوروبا عند الحدود الروسية الأوكرانية، إذ استطاعت أخذ موسكو إلى حرب استنزاف مع جارتها كييف، وجعلت من زيلينسكي أداةً لتحقيق أهدافها، جاعلةً من روسيا أسيرةَ الحرب ومهدّدةً من سباق التسلّح للدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي لوقف الزحف الروسي إلى قلب أوروبا، في إعادة صورة الاتّحاد السوفييتي إلى أذهان الأوروبيين، وما كان عليه من التوسّع الشيوعي في دول تتغنّى بديمقراطياتها، لا بل تدافع عن قيمها، وتسعى إلى نشرها، كما كان الحال في الحفلة الافتتاحية لألعاب الأولمبياد في باريس.
لم يختلف صراع الشرق الأوسط عما يحدث في أوكرانيا، فاستطاعت الإدارة الأميركية "إيجاد" زيلينسكي جديد لها، والمتمثّل في رئيس حكومة إسرائيل نتنياهو، الذي يخوض اليوم حرباً في أكثر من جبهة، من غزّة إلى إيران، مروراً بلبنان وسورية والعراق واليمن. هذا المدّ الإيراني عبر وكلاء إيران في المنطقة يعمل الأميركي على إعادة تهذيبه، لأنّ الإيراني كانت له اليد الطولى في دعم بوتين بالسلاح، وفي التحايل على العقوبات الأميركية عبر ما عرف بـ"أسطول الظلّ"، لتصدير نفط روسيا وغازها بالتعاون مع إيران.
يشهد عالمنا اليوم "خربطات"، ويعيش ناسه حالةَ تَخوُّفٍ من نشوب حرب عالمية ثالثة، في ظلّ الإصرار على الحفاظ على التموضعات القائمة في انقسام عمودي، من دون فتح أيّ نوافذ للتسويات. ولكن دائماً هناك استثناءات بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، لا سيّما في ما يرتبط بقارّة أميركيا الجنوبية، تحديداً مع فنزويلا، تلك التي تُطبِّق عليها واشنطن مبدأ مونرو لمنع الدول الصاعدة من الزحف إليها، كي لا تجعل منها تهديداً حيويَّاً لأمنها القومي.
تواجه فنزويلا أزمةً سياسيةً مع رفض المُعارَضة نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز الرئيس نيكولاس مادورو بولاية ثالثة، بنسبة 51%، وفقاً لهيئة الانتخابات. وقالت المُعارَضة في فنزويلا إنّها تملك دليلاً على فوز مرشّحها بالانتخابات، واعتبرت أن 73% من نتائج التصويت التي اطَّلعت عليها أظهرت أنّ مُرشّحها إدموند غونزاليس فاز بفارقٍ كبير. فنزويلا واحدة من سلسلة من الحلقات التي تشكّل محور المواجهة للرأسالمية المتمثّلة بالليبرالية الغربية، التي تقودها الولايات المتّحدة. لهذا لم يتردّد التحالف الصيني – الروسي في طرح مبدأ التغيير نحو نظام عالمي جديد، قائم على التعدّدية القطبية والمشاركة في صنع السياسة الدولية.
يعيش الناس في عالم اليوم حالةَ تَخوُّفٍ من نشوب حرب عالمية ثالثة
في أرض فنزويلا "خربطات"، وفوضى أمنية، لا سيّما في العاصمة كاراكاس، تغذّيها واشنطن، التي اعتبرت أنّ مُرشّح المعارضة هو الفائز في انتخابات 28 يوليو، وهنَّأته في هذه المناسبة. فالهدف بالنسبة إليها ليس مَنْ الفائز، بل لجم هذه الدولة وإبعادها عن أن تكون مسرحاً لأعداء واشنطن، والعبث بالتالي في الحديقة الخلفية للولايات المتّحدة، وعدم السماح لنموذج أوكراني جديد في فنزويلا.
ستزيد واشنطن من ممارسة الضغط على مادورو الذي أبدى استعداده لاستئناف الحوار مع واشنطن، داعياً إلى التخلّي عن التهديدات، والتزام الاتفاقات التي تمّ التوصّل إليها في قطر عام 2023. وكتب على "إكس" مُرفِقاً مُذكِّرةَ التفاهم التي جرى التوصّل إليها في قطر: "قلت دائماً إنّه إذا كانت حكومة واشنطن مُستعدّة لاحترام السيادة، والتوقّف عن تهديد فنزويلا، فيمكننا استئناف الحوار، ولكن على أساس الامتثال لمُذكِّرة قطر".
على قاعدة "يا رايح كتّر القبائح"، يُنتظر كثيرٌ مما قد يُقدم عليه بايدن مع انسحابه من السباق الرئاسي، لكن هذا لن يحدث، لا سيّما في ظلّ احتدام المعركة الانتخابية، والتَخوُّف من عدم إعطاء ترامب نقاطاً إضافيةٍ تصبّ في مصلحته، والابتعاد عن تورّط الجيش الأميركي في حربٍ مباشرةٍ في أيّ ساحةٍ دولية. لهذا، كما مارس سياسة الضبط والتوازن مع الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، سيكون كذلك مع فنزويلا، وجلّ ما يحتاجه من التصعيد إضعاف ولاية مادورو الثالثة. لا، بل جعلها تحت أعين الإدارة الأميركية، لكسب هذه البلاد التي تختزن أراضيها ثالث أكبر احتياط نفطي في العالم.