هل يقبل التونسيون دستوراً بدون عروبة وإسلام؟

12 يونيو 2022
+ الخط -

فجّر رئيس الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد دستور الجمهورية الجديدة في تونس، أستاذ القانون الصادق بلعيد، جدلا عاصفا آخر، راسما بذلك أزمة أخرى تراكم دوائر الأزمات المركبة والمعقدة التي أصبحت تحاصر التونسيين وتخنق أنفاسهم. .. فجأة وبدون مقدّمات، أكّد بلعيد إمكانية التخلي عن الفصل الأول من دستوري 1959 و2014، بل والإجهاز عليه، في مشروع الدستور الجديد الذي سيجرى الاستفتاء عليه يوم 25 الشهر المقبل (يوليو/ تموز). وينص هذا الفصل المقصود بالمحو "أن تونس دولة حرّة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها"، وذلك تكريسا وانسجاما مع توجه رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الذي طالما انتقد، في المطلق، مسألة أن يكون للدولة دين، سواء كان الإسلام أو غيره، إذ ذكر في محاضرة له بمناسبة الدرس الافتتاحي للسنة الجامعية في سبتمبر/ أيلول لعام 2018 في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس ما نصه: "إن أحدا لم يجلس مع الدولة على مائدة الغداء، فكيف لهذه الذات المعنوية أن تكون لها عقيدة وأن تدين بدين من الأديان". ويبرر هذا التوجّه لسعيّد ما أعلنه رئيس الهيئة الوطنية الاستشارية، الصادق بلعيد، أن الغرض من إلغاء الفصل الأول من دستوري 1959 و2014 هو التصدّي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، على غرار حركة النهضة. وبذلك ينكشف المستور عن السبب السياسي وراء هذا الإجراء، فالهدف منه ليس إصلاحيا أو حرصا على مدنية الدولة التي ستكفل الحريات للجميع من دون مرجعياتٍ عقائديةٍ أو مذهبية، إنما هو صراع قائم بين سعيّد وحركة النهضة وبقية المكوّنات الحزبية القريبة منها، كائتلاف الكرامة وغيرها. وبذلك، يتأكد أن هذا الصراع السياسي قد ألقى حتما بظلاله على نص الدستور ومستقبل النظام السياسي الذي يسعى إليه سعيّد، ليصبح صراعا على الهوية. وزاد الطين بلة ما صرّح به المنسق العام لصياغة الدستور لوكالة الأنباء الفرنسية قائلا "لدينا أحزاب سياسية أيديها متسخة، أيها الديمقراطيون الفرنسيون والأوروربيون، شئتم أم أبيتم، نحن لا نقبل بأشخاص وسخين في ديمقراطيتنا"، ما اعتبر تجاوزا لكل الأعراف السياسية والأخلاقية، فبأي حقٍّ يسمح لنفسه أستاذ للقانون ومسؤول عن صياغة دستور جديد بنعت الآخرين من أبناء وطنه بأنهم وسخون. وقد التقى هنا هذا التجاوز مع ما قام به رئيس الجمهورية مجازفا هو الآخر بإعفاء 57 قاضيا مع حرمانهم من حقّ التظلم، في حين أن قرينة البراءة تبقى قائمة في هذا المجال، وفي غيره، ولا يمكن الحياد عنها.

وبالعودة إلى الدستور الجديد وسؤال الدين والهوية والانتماء العربي في فصله الأول، السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل كتابة الدساتير مجرّد عملٍ تقنيٍّ يقوم به مختصون في القانون الدستوري، أم جهد جماعي وطني أكبر من ذلك بكثير؟ ونستحضر هنا ما قالته الثائرة الفرنسية ومحرّرة إعلان حقوق الإنسان والمواطن، أوليمب دي غوج، في مذكراتها "لا قيمة للدستور إذا لم تتعاون أغلبية أفراد الأمة على تحريره". فالمسألة الدينية في دساتير العالم كانت وستظل ذات خصوصية عالية يراعى فيها الاستقرار الإيماني الجمعي للشعوب، وقد يُفضي المسّ بها إلى صراع مدوٍّ ودموي، قد ينطلق بذروته وعنفه، ولا يتوقف، وله ارتدادات اجتماعية خطيرة، وذلك ما يُخشى منه إذا زكّى بعض التونسيين الدستور الجديد، أو إذا مرّره قيس سعيّد بالقوة، على غرار ما جرى بشأن الاستشارة الإلكترونية الشعبية قبل شهرين، والتي لم يشارك فيها أكثر من 5% من التونسيين، ومع ذلك، اعتمدت نتائجها خيارات للشعب التونسي برمته.

لم يغامر زعماء الحركة التحرّرية التونسية بدستور جديد يؤسّس لدولة علمانية أو لائكية يلغي إسلامها وعروبتها

والغريب أن ما تحاشاه وفهمه زعماء الحركة التحريرية التونسية، بورقيبة ورفاقه، وهم من ذوي الثقافة السياسية الليبرالية ذات المرجعية الفلسفية لفكر الأنوار المؤسس للثورة الفرنسية، ورغم ذلك، حفظ التاريخ لهم حكمتهم في وضع دستور دولة الاستقلال (1959)، إذ لم يغامروا ولم يمرّوا بقوة نحو دستور جديد يؤسّس لدولة علمانية أو لائكية، يلغي إسلامها وعروبتها، خصوصا وهم سبروا أغوار الشخصية التونسية العربية الإسلامية، وهوية الشعب التونسي المسلم، ملتزمين باحترام مشاعر هذا الشعب وانتمائه إلى جذوره ومكوّنات هويته، وقد كانت معارك هذا الشعب حول المؤتمر المسيحي (الأفخارستي 1930) والذي انعقد في تونس بمناسبة مرور قرن على استعمار فرنسا الجزائر، ليتحوّل فجأة إلى مؤتمر تبشيري للمسيحية على الأرض التونسية، وكذلك ملحمة هذا الشعب العريق ضد تجنيس أبنائه من التونسيين وغيرها من معارك يذكرها مؤرخو الحركة التحريرية الحديثة، وتحولات الهوية التونسية، على غرار هشام جعيط وسعيد بحيرة والمنصف وناس والهادي التيمومي، بأنها حسمت الأمر نهائيا لصالح الإرتباط بين الإسلام والدولة التونسية الفتية وعروبة شعبها، إذ أمّمت نضالات النخب، بمختلف أنواعها، العقيدة الاسلامية، لتجعلها بيد الأمة التونسية، رابطة إياها بالقيم الوطنية والانتماء، وبذلك خرس فقهاء الاستعمار وما كان يسمّى ولا يزال "حزب فرنسا" منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ليصبح الإسلام التونسي متماهيا مع الشعب، ومكرّسا مع عروبة البلاد في الفصل الأول من دستوري 1959 و2014.

هل سيقبل التونسيون بعكس ذلك، عبر تزكية دستور جديد لم يطلعوا على مضمونه من قبل، ولم يشاركوا في صياغته، وقد يرغمون على الالتزام بفلسفته وفصوله في حياتهم ومعيشتهم خلال مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم، أم سيرفضون تزكية هذا الدستور الذي لا يشبههم، والمفروض عليهم، ويتناقض مع هويتهم وتاريخهم ونمط عيشهم؟

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي