هل لقيس سعيّد مناصرون؟ مَن هم؟

30 مايو 2022

متظاهر يرفع علامة النصر في تونس احتجاجاً على قرارات قيس سعيّد (15/5/2022/Getty)

+ الخط -

يتمدّد الانقلاب في تونس، ويغرس خطاه في جسد انتقال ديمقراطي كان رخواً كثير المنزلقات. مع ذلك، لا أحد ينكر أنه يفكّك ما بناه التونسيون مؤسسة تلو الأخرى، حتى إنّنا نشعر أحياناً بأن هذه البلاد لا ثوابت لها، وأنّ كلّ شيء قابلٌ للمحو "بجرّة قلم سعيد": حقائق وتواريخ، أحداث وقيم وأشخاص. حالياً، هناك سردية تقدّم لنا حزينة وسطحية، لكنّها تجد من يُنصت إليها ويصدّقها ويهتف لها، حتى إنّها كادت تعصف بهويتنا جميعاً. كنتُ من الجيل الذي يعاتب أشقاءنا الليبيين سنوات خلت، على استسلامهم للسردية التي بناها الراحل العقيد معمر القذافي، حتى صدّقوها وتبنّوها، فرأوا بها ومن خلالها ذواتهم والآخرين، فهم أبناء جماهيرية عربية شعبية اشتراكية عظمى... فيها من تحزّب خان واللجان في كلّ مكان والفاتح أبداً. لسنا في تونس بعيدين جداً عن تلك الحالة، فلدينا "حشدٌ شعبي" له ملامح متفسّخة ومتحلّلة. لكن، ثم أصداء لهتافاتٍ تصدُر عنه، وتلهج باسم "فاتح تونس"... ها إنّ بلادنا تُسلّم لفاتح جديد، يخلصنا من كلّ "الترّهات" التي انطلت علينا، ويدعونا، بكثير من التواضع، إلى التعلم من "فكره الجديد" الذي سيخلّص البشرية جمعاء من "مقولاتٍ قديمة عفا عليها الدهر وشرب".
لا يمشي قيس سعيّد في طريقه المفتوحة وحيداً، بل له جمهور يسانده. لا تعنينا النسب الضعيفة التي حصلت عليها الاستشارة الوطنية الإلكترونية، أخيراً، وبلغت نسبة المشاركة فيها ما يناهز 4%، أي ما قدره تقريباً 500 ألف مواطن من جملة ثمانية ملايين ناخب أو أكثر بقليل. كما لا تعنينا الأعداد الهزيلة التي نزلت مرّات معدودة إلى الشارع، وأبانت استجابة ضعيفة لتلك الحملات التي تحوّل "فيسبوك" إلى ساحات وغى افتراضية لها. ينكر الرئيس أن يكون له أتباع، ويقول، من حين إلى آخر، إنهم لا يمثلونه. وهو الذي يؤكّد دوماً أنه لم يفوّض إلى أحد التكلم باسمه. ومع ذلك، لا يستطيع إخفاء انتشائه علناً، وهو يذكر أن الملايين نزلت إلى الشارع في تلك التحركات مجسّدة إرادة الشعب، بل يرى فيها ردّاً بليغاً على خصومه و"صفعة في وجه دعاة العودة إلى الوراء".

لا يمكن إنكار أنّ لسعيّد و"مشروعه" أنصاراً، علينا أن نحدّد ملامحهم، حتى ولو كانوا هم غير قادرين على تحديد ملامح مشروع سعيّد الذي يظل هلامياً

سنستبعد المقاربة الكمية، لأنه لا معنى لها، رغم أن البلاد ذاهبةٌ، في الأسابيع القليلة المقبلة، إلى امتحان أرقام عسير. سيمرّ الاستفتاء حتماً، ولكن بأي نسب مشاركة، خصوصاً في ظل دعوات عديدة متزايدة إلى مقاطعته. فجل الأحزاب، ذات الوزن الانتخابي، كرّرت موقفها الرافض له. وتعزّزت بذلك جبهة المقاومة، حين عبّرت تقريباً منظمات عديدة وهيئات مختلفة عن المواقف نفسها، رغم ما بينها من خلافات حادّة: رفض الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية التي يُحسب لها في تونس ألف حساب، فضلاً عن جمعية النساء الديمقراطيات واتحاد الفلاحين إجراء الاستفتاء، فيما ظلت موافقة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان الداعية إلى المشاركة في "لجنة الجمهورية الجديدة" المكلفة صياغة دستور جديد تثير جدلاً داخلياً واسعاً، عبّرت عنه بيانات فروعٍ عديدة.
مع ذلك كله، لا يمكن إنكار أنّ لسعيّد و"مشروعه" أنصاراً، علينا أن نحدّد ملامحهم، حتى ولو كانوا هم بالذات غير قادرين على تحديد ملامح مشروع سعيّد الذي يظل هلامياً، ولا نعثر له على أثر واضح، سواء تبرّمه من "سياسيين فاسدين" ودستور كان يهدّد "بتفجير البلاد من الداخل"، فضلاً عن جبال من التخوين والشتيمة لكلّ مناوئيه.
أنصار قيس سعيّد خليطٌ غير متجانس، لكن تجمعهم تقريباً مشاعر النقمة على النّخب التي حكمت خلال الفترة الماضية التي يحرصون، مع إعلام متواطئ، على نعتها بالعشرية السوداء لطمس كلّ مناطق الإضاءة التي جعلت تونس محلّ أنظار العالم ونقطة مشعّة في تاريخ مقارعة الاستبداد.

صرّح أحد رموز اليسار بأنّ الدولة الوطنية لم تتمكّن، طوال ما يقارب سبعة عقود، بكلّ ما كان لديها من إمكانات ونفوذ، من إنجاز ما قام به الرئيس

طيفٌ مهم من هؤلاء الأنصار، هم من بقايا النظام القديم: أنصار الرئيس بن علي. ولا غرابة في ذلك، فقد كان سعيّد ذاته مقرباً من جامعيي حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم سابقاً). ويشهد أرشيف الصحافة التونسية، خلال تلك الفترة، على أنّه كان ناشطاً في منتديات عديدة، بل تولى أيضاً إدارة دورات تدريبية لكوادره وبرلمان تلك الحقبة. يلتفّ هؤلاء حول سعيّد ويشكلون حوله طوقاً. اختاروا عن "حكمة" سعيّد، فضّلوه على عبير موسي، الأكثر وفاءً للمنظومة القديمة، لأنّه في ركاب السلطة له مطلق النفوذ، قادر على الفتك بخصومه، وهم الإسلاميون في المقام الأول.
أما الطيف الثاني، فهم من اليسار الذين أدركوا أنّهم عاجزون عن أن يهزموا خصومهم الإسلاميين من خلال معركة الديمقراطية التي تعبّر عنها صناديق الاقتراع. بيّنت الانتخابات التي جرت خلال العشرية الماضية، سواء النيابية أو الرئاسية أو حتى البلدية، أنهم لم يبلغوا، في أحيانٍ كثيرة، عتبة 1%. يصطف هؤلاء وراء سعيّد لأنه أراحهم من خصمهم هذا. صرّح أحد رموز اليسار بأنّ الدولة الوطنية لم تتمكّن، طوال ما يقارب سبعة عقود، بكلّ ما كان لديها من إمكانات ونفوذ، من إنجاز ما قام به الرئيس. ويمكن أن يُضاف مكوّن آخر إلى هؤلاء، وهم طيف واسع من القوميين الذين للأسباب الأيديولوجية ذاتها يساندونه. ويضيف هؤلاء، في حماسة ساذجة، الخطاب السيادي الذي يلهج به الرئيس، بين حين وآخر، حين يخوّن خصومه، ويصفهم بالمتمسّحين على عتبات السفارات وغيرها، من دون أن نغفل تخوينه أهل التطبيع مع إسرائيل، قبل أن يصمت مرة واحدة عن كلّ مظاهر التطبيع التي تجري حثيثة تحت أنظاره، والتي جاء عليها بيان الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل، وعبّر فيه عن رفضه المشاركة في مسار الاستفتاء بكلّ خطواته.

جبهة الاستئصاليين تصطف الآن وراء رئيس الجمهورية، على أمل أن يستأنف مشروع بن علي

الطيف الثالث والأخير هم الاستئصاليون، كما حددهم أستاذ العلوم السياسية القدير، حمادي الرديسي، في مقال له أخيراً، فرغم النزعة المحافظة، بالمعنى الديني، لسعيّد، فإنّ جبهة الاستئصاليين تصطف الآن وراء رئيس الجمهورية، على أمل أن يستأنف مشروع بن علي، أي حملته الشهيرة لتجفيف المنابع، حتى وإن جرى تطهير تونس من كلّ نفَس ديمقراطي.
ثم طيف آخر من التبّع تحرّكهم رغبات دفينة من الثأر والانتقام، هم ضحايا الآلة الإعلامية الماكرة، يعتقدون أن حركة النهضة حرمتهم خيراتٍ عميمةٍ استأثرت بها. يأمل هؤلاء أن تتحوّل تونس، في عهد سعيّد، إلى جنة مباركة: فيها رغد العيش وسعادة البقاء، والحال أنّ خلاف ذلك يحدُث: اقتصاد الندرة وشبح الإفلاس يهدّدان هذه الفئات ذاتها. بعضٌ منهم ضحايا، وآخرون سفراء متجوّلون فوق العادة، ينتشرون في الأسواق والساحات والمقاهي. سائق التاكسي نموذج لهؤلاء، فما إن تركب السيارة، حتى يبدأ السائق في سرد محفوظاته عن ظهر قلب، بل إنّ بعضهم يعلقون صور الرئيس، وهذه عادة سيئة، توهّمنا أنّها اختفت خلال العشرية الماضية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.