هل بقي للسوري إلا الهجرة؟
قليلاً ما تُصادف في سورية مَن لا يفكّر بالهجرة أو لا يخطّط لها. ومن النادر أن تجد طالباً أو متخرّجاً جامعياً جديداً لا ينكبُّ على تعلّم اللغات الأجنبية، وخصوصاً الألمانية، جزءاً من خطّته لمغادرة البلاد واللجوء إلى ألمانيا أو أي دولةٍ أخرى تحمله إليها الريح. فمع تفاقم التحديات المعيشية، وفقدان الأمل على مدى سنواتٍ بتحسُّن الأوضاع العامة في سورية عبر مسار الحل السلمي الذي كان يُعوِّل السوريون عليه كثيراً لكي يُحدث تغييراً على أحوالهم، لم يبقَ للسوريين سوى التفكير بالهجرة إلى أي دولةٍ يمكن أن تؤمن لهم الإقامة، وحدّاً أدنى من العيش الكريم. وإذ تؤثِّر الحوادث والتطوّرات مهما كان حجمها، بأمزجة السوريين ونزوعهم إلى اتخاذ قرارات مصيرية، فإن الفترة التي تلت عيد الفطر الذي حلّ قبل أيام، كانت حاسمة حين غيّرت في هذه الأمزجة بشكل ملحوظ، وبات حتى من كان لا يفكر في مغادرة البلاد يبحث عن طريق للخروج.
بعيداً عن صراعات القوى الدولية التي توزّع حروبها وقلاقلها وصراعاتها على جغرافيا الكوكب، من أوكرانيا إلى تايوان، ومن أرمينيا وأذربيجان إلى السودان والحرب الإسرائيلية على غزّة، مروراً بالانقلابات المتتالية التي تشهدها أفريقيا، أو الإبادات الجماعية المستجدة في إثيوبيا، تبدو الأرض السورية ساحة لكل تلك القوى التي إن لم تكن قد حجزت لها موقعاً أقامت فيه قواعد عسكرية لها ولوكلائها، فإنها تحافظ على نفوذ يصعب على السوريين الفكاك منه ويئنون من الآلام التي يسببها. أمام هذا الواقع يجد السوري نفسه غريباً في أرضه، وأينما ولّى وجهه يصطدم بمن يوجه له الصفعة، سواء كان ممن يُصنفون (حلفاء) أو أعداء. وإن هو وصل إلى مرحلة تناسي حقيقة تشظّي بلاده وتقاسمها، فإن حال معيشته المتردي والواصل إلى درجة تخطّت فيها كل المقاييس المعروفة، تذكره بأن ثمّة صخرة أخرى تقبع على صدره وتأبى الانزياح، صخرة يزداد ثقلها مع كل إشارة إلى سوء حاله.
يُعد التحسُّن في واقع الكهرباء مقياساً ومؤْذِناً لبدء حركة العجلة الاقتصادية المتوقفة توقفاً شبه تام، وبالتالي انعكاسها الإيجابي على الواقع المعاشي
ومن تلك الإشارات مسألة التيار الكهربائي؛ إذ تُعدّ مسألة توافر التيار الكهربائي وساعات تقنين التغذية بالتيار، من العوامل التي تؤثر تأثيراً قوياً في معيشة السوريين ونشاطهم الإنتاجي، وبالتالي في أمزجتهم وأوضاعهم النفسية. وكانت الفترة التي سبقت عيد الفطر بأيام، مميزة في هذا المجال؛ إذ لاحظ السوريون تحسُّناً في واقع التيار الكهربائي، فازدادت ساعات التغذية من ساعة وصل واحدة كل ست ساعات، إلى ثلاث ساعاتٍ وصل وثلاث ساعات قطع. وكانت هذه الفترة كافية لتُسبغ راحة نفسية على المواطنين ومسحةً عزيزة من التفاؤل، على الرغم من تدهور أوضاعهم المعيشية، وعدم قدرة كثيرين على الإيفاء بمتطلبات التحضير لملاقاة العيد، من شراء ألبسةٍ جديدةٍ أو صناعة الحلويات التقليدية أو حتى شراء اللحوم التي باتت حلماً، ولا يمكن لكثيرين الفوز بها، وإن مرة كل عيد.
إلا أن تغيُّراً جذرياً حصل بعد العيد، ليس لأن التقنين عاد إلى حالته السابقة، بل لأنه ازداد سوءاً حين أصبح نصف ساعة وصل مقابل خمس ساعات ونصف قطع، فسادت حالة من الإحباط غير المعتاد، بعدما أفرط الجميع في التفاؤل بأن يكون تحسُّن واقع الكهرباء متواصلاً، ويقود إلى تحسُّنٍ في مجالات أخرى. وقد اعتاد السوريون أن يربطوا بين التحسُّن الذي يطرأ على أحد القطاعات واحتمال انعكاسه على القطاعات الأخرى، خصوصاً المعيشية، لذلك يُعد التحسُّن في واقع الكهرباء مقياساً ومؤْذِناً لبدء حركة العجلة الاقتصادية المتوقفة توقفاً شبه تام، وبالتالي انعكاسها الإيجابي على الواقع المعاشي.
بدأت سورية تعاني من نقص الكوادر، غير أن الأخطر استنزاف قطاع الصحة نتيجة هجرة الكوادر العاملة فيه
بعد انتشار بدائل التيار الكهربائي من وسائط الإنارة كالمدخرات وملحقاتها من شواحن وأضواء الليد (LED) المبتكرة حديثاً، والتي تعمل على التيار المستمر ذي استطاعة 12 فولت التي يُعتمَد عليها أساساً لتأمين الإنارة ليلاً بنسبة معينة، يمكن القول إن تزويد المنازل بالتيار الكهربائي، على ضرورته، تقلّ أهميته، في حالة سورية، إذا ما قورن بأهمية تزويد المصانع بفئاتها كافةً به، بسبب ضرورة هذا الأمر للحياة الاقتصادية العامة في البلاد. وهنا المشكلة؛ إذ تعاني مصانع كثيرة من انقطاع التيار، وتهدّد مصانع أخرى بالتوقف عن العمل بسبب ارتفاع فواتير الطاقة الكهربائية بعد الزيادة الأخيرة التي طرأت على أسعار هذه الخدمة، والتي قال صناعيون إنها ستؤدّي إلى انتقال الرساميل الوطنية إلى بلدان أخرى تقلّ فيها كلف الإنتاج.
أخبرتني مدرِّسة للغة الألمانية، وهي خرّيجة إحدى الجامعات الألمانية، أنها أحياناً لا تجد وقت فراغ لكي تتناول طعامها، لأن وقتها مخصص منذ الصباح حتى ما قبل منتصف الليل لتدريس طلاب اللغة الألمانية التي أصبحت كلمة السر لكل من يخطّط لمغادرة البلاد. وتعطي الدروس لطلاب شهادة التعليم الثانوي، وطلاب جامعات وخرّيجين، وهنالك كبار في السن، بل وعائلات كاملة مكونة من أب وأم وأولادهم، الذين يحاولون السفر إلى ألمانيا ويريدون قطع شوط من مرحلة تعلم اللغة لتسهيل حياتهم هناك إن سافروا، غير أن الفئة الأوسع هي فئة دارسي الطب أو المتخرجين الجدد من كليات الطب السورية، الذين لديهم الحظ الأوفر في القبول للهجرة إلى ألمانيا نتيجة الحاجة الماسة للطواقم الطبية في هذا البلد الأوروبي. ولهذا السبب، بدأت سورية تعاني من نقص الكوادر، غير أن الأخطر استنزاف قطاع الصحة نتيجة هجرة الكوادر العاملة فيه.
لا المسؤول لديه ما يقدّمه، ولا المواطن بات ينتظر منه شيئاً، فما ينتظره المواطن أصبح هنالك خلف الأفق، في دول الهجرة واللجوء المأمول
لا تساهم قصص المصاعب التي يعانيها اللاجئون السوريون في الدول الأوروبية في الحدّ من نزوع أقرانهم الدائم إلى الهجرة. فبالنسبة إليهم لا تقارن المصاعب التي يمكن أن تواجههم في بلدان الغربة بالتي يواجهونها في الوطن. إذ تكثر قصص من لجأوا إلى دول في أوروبا ومعاناتهم بسبب العنصرية أو صعوبة الاندماج في المجتمعات الجديدة، وبالتالي، العزلة التي وجدوا أنفسهم وسطها بعدما عانوا الأمرّين وخاطروا بحيواتهم بالتنقل عبر البحار وقطع الحدود الدولية للوصول إليها. وبينما كان يجري تجميعُهم في مراكز تجميع تكتظ بأعدادهم الكبيرة بداية وصولهم إلى ألمانيا وغيرها، أخذت السلطات تعمل على توزيعهم على كامل جغرافيا البلاد، ما أدّى إلى عدم تركز جالية سورية من المهاجرين الجدد في مدينة أو موقع واحد، على عكس ما كان يجري في الهجرات السابقة التي شهدها شرق المتوسط، أواخر القرن التاسع عشر، والتي أوجدت تجمّعات لجاليات عربية أو إيطالية أو إيرلندية، وغيرها، في دول أميركا اللاتينية وأميركا الشمالية.
قبل سنة أو أكثر، توقّف السوريون عن الحديث عن المصاعب المعيشية، أوعن شحّ مازوت التدفئة أو غاز الطهو أو الكهرباء ومشكلات النقل وأزمة السكن والمداخيل الشحيحة والفقر، ربما لأنهم عرفوا أن لا جدوى من الكلام في هذه المجالات، فهم أدركوا أن تغيُّراً في أحوالهم أصبح من المستحيلات. وبدلاً من الشكاية أو الكلام في تلك المسائل، بات الحديث الوحيد الذي يجمع الغالبية هو الحديث عن الهجرة، أو على الأقل السفر إلى الخارج، إلى العراق أو دول الخليج، بل والدول الأفريقية، من أجل تأمين فرصة عمل تعينهم وتعين أفراد عائلاتهم الذين سيتركونهم خلفهم. وبينما من النادر أن يخرج أحد المسؤولين السوريين للحديث عن شؤون البلاد، فإن حصل هذا الأمر وتحدّث أحد المسؤولين عن القضايا الداخلية، فإنه لا يجد من يصغي إليه أو يتناقل كلامه كما كان الأمر في البلاد سابقاً. ولا يمكن توصيف هذه الحال إلا وكأنما ثمّة قطيعة بين الطرفين، أو ثمّة توافق ضمني، فلا المسؤول لديه ما يقدّمه، ولا المواطن بات ينتظر منه شيئاً، فما ينتظره المواطن أصبح هنالك خلف الأفق، في دول الهجرة واللجوء المأمول.