سورية والعبور من الثورة إلى الدولة
يمكن القول إن إسقاط دكتاتورية الرئيس المخلوع بشّار الأسد ثمرة سيرورة تاريخية مرّت بها الثورة السورية التي انطلقت في مارس/آذار 2011، في سياق الربيع العربي الذي بدأ في تونس، وجال على بلدانٍ عربية عدّة، مسقطاً أنظمتها وآخرها النظام السوري. إلّا أن توقُّف الثورة في دولٍ مثل تونس ومصر والسودان عند جزئية إسقاط رأس النظام، وإنهاء الثوّار حالة الجاهزية لديهم وعودتهم إلى منازلهم، وكأنهم قد دخلوا حقبة التقاعد المُبكّر، كان بمثابة الضربة القاصمة للثورات في تلك البلدان، وهو ما سمح للثورة المضادّة أن تحتلّ المجال العام وتهدم ما حققته تلك الثورات وعجزت عن صيانته. من هنا يجدر التساؤل إن كانت الثورة السورية ستكتفي بخلع رأس النظام، والقضاء على منظومته الأمنية القمعية، أم ستستكمل مسيرتها التي لا يمكن أن تتوقّف إلا مع القضاء على منظومة الاستبداد والقمع والفساد والفوارق الطبقية والقهر والتفقير والإذلال، والتي كانت بمجملها المسبّب لاندلاع ما بات يعرف بثورة الكرامة؟
من المُبكّر الكلام عن انتهاء الثورة السورية، خصوصاً أنها كانت تهدف إلى بناء دولة الكرامة والحرّية لشعبها
الدافع لهذا الكلام تصريحان صدرا من رئيس الحكومة الانتقالية محمد البشير، والقائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع. صرّح البشير أن الاقتصاد السوري سيتحوّل اقتصاد السوق الحرّ بعد إنهاء نمط الاقتصاد الاشتراكي، الذي كان يتبنّاه نظام الأسد. أمّا تصريح الشرع قبل أيام فكان لافتاً حين قال: "نحن اليوم في مرحلة بناء الدولة، الثورة السورية انتهت مع سقوط النظام، ولن نسمح بتصديرها إلى أيّ مكان آخر، ولن تكون سورية منصّةً لمهاجمة أو إثارة قلق أيّ دولة عربية أو خليجية مهما كان". وإذا ما بدأنا أولاً بتشريح مقولة الشرع، نجد أنه ربّما من المُبكّر الكلام عن انتهاء الثورة، خصوصاً أنها كانت تهدف إلى بناء دولة الكرامة والحرّية لشعبها، وهي تختلف بأجندتها عن الثورة الإيرانية، على سبيل المثال، التي أحدثت توتّرات وحروباً في المنطقة العربية، حين قرّر قادتها تصديرها إلى دول الجوار. إذ إن ثورةً استمرّت أكثر من 13 عاماً، لا يمكن وقفها أو إطفاء جذوتها بقرارٍ، في وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى استنفار الثورة والثوار وجميع مواطنيها، وبقائهم على أتم الاستعداد للدفاع عن مكتسبات ثورتهم في وجه فلول النظام المخلوع إن أطّلوا برؤوسهم. كما من الضروري استكمال مهمّات الثورة، التي من أجلها قامت وتواصلت منتصرةً على أعتى ثورة مضادّة عرفها التاريخ الحديث، وشارك فيها النظام المخلوع وحلفاؤه في روسيا وإيران ولبنان وغيرهم، وحين تُستكمَل هذه المهمات، عندها يمكن القول إن الثورة السورية قد انتهت.
بالنسبة لتصريح محمد البشير، عن اعتماد اقتصاد السوق الحرّ بدلاً من الاقتصاد الاشتراكي الذي كان يتبنّاه نظام الأسد، من الضروري الإقرار بأن نظام الأسد الأب لم يعتمد الاقتصاد الاشتراكي الذي يعني ملكية الشعب وسائل الإنتاج، بل كان يعتمد اقتصاد رأسمالية الدولة، وهو ما كان يمنع السوريين من التمتّع بثروات بلادهم، بل ركَّزها في يد حفنةٍ صغيرةٍ من عائلة النظام والمقرّبين والمحظيين، من ضبّاط ومسؤولين اتخذوا صفة التأبيد بمناصبهم. ومع وصول بشّار الأسد إلى السلطة سنة 2000، جرى اعتماد اقتصاد السوق الحرّ على يد الاقتصادي عبد الله الدردري مبّكراً، وذلك حين تسلَّم رئاسة تخطيط الدولة، واستكملها حين تسلَّم منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية بين عامي 2006 و2011. يومها أجمع كثيرون على أن سياسات النظام التي خطّط لها الدردري كانت من الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الثورة، بسبب رفع الدعم عن المزارعين، ما أدّى إلى تراجع الإنتاج الزراعي للبلاد، وتحوُّل مئات آلاف الفلاحين إلى عاطلين. كما انتهج سياسات تشجيع الاستيراد بدلاً من تشجيع الإنتاج المحلّي والاستثمار في البلاد، ما أدّى إلى تراجع الصناعات السورية وتراجع معدّلات النمو وازدياد المعدّل العام للبطالة، وتراجع معيشة نسبة كبيرة من السكّان، وتهالك الاقتصاد.
ومع انطلاق الثورة السورية سنة 2011، أقرَّ النظام دستوراً جديداً سنة 2012، أسقط منه كلمة الاشتراكية، وحلّ محلها القطاع الخاصّ شريكاً للقطاع العام. إلّا أن تغوُّل النظام وأدواته وسيطرتهم على مفاصل اقتصاد البلاد حوَّل اقتصادها إلى اقتصاد مافيوي، بدأت ملامحه الأولى مع سيطرة رامي مخلوف على اقتصاد البلاد بالنيابة عن بشّار منذ سنة 2000. ثم أتى خلع مخلوف ليتقاسم بشّار وزوجته وأخوه ماهر السيطرة على إمبراطوريته المالية، ثمّ تحوُّلت الطبقة الحاكمة إلى التوحُّش مع إيغالها في الدم السوري، وفرض الإتاوات على الصناعيين والتجّار والمهنيين، وإيصالها الشعب إلى درجة المجاعة.
إن تبني السلطة الجديدة اقتصاد السوق الحرّ، كما جاء على لسان البشير، خصوصاً في فترة الثلاثة الأشهر الأولى لإدارتها البلاد، وربّما الفترة التي تليها، وإمكانية توجّهها لخصخصة القطاع العام، الذي يُعدّ العمود الفقري لاقتصاد البلاد، هو بمثابة اعتماد هذه السلطة النهج الذي سيفقدها أحد عناصر قوتها، التي يمكن المحافظة عليها عبر إصلاح هذا القطاع الكبير واستغلاله بدلاً من خصخصته. ليس هذا فحسب، بل سيؤدّي هذا النهج إلى تسريح أعداد كبيرة من الموظفين، وبالتالي، تأسيس جيش من الناقمين يصبحون جنوداً في ثورة مضادّة تقدّمهم الحكومة إلى فلول النظام على طبق من ذهب ليحاربوا بهم السلطة الجديدة، أيّاً كان شكل تلك الحرب، باردةً أم مسلّحةً.
سقط نظام الأسد الاشتراكية من دستور 2012، وحلّ محلها القطاع الخاصّ شريكاً للقطاع العام
لذلك تأتي هذه التصريحات بينما تواجه البلاد تحدّيات داخلية وخارجية مصيرية، يفضّل معها الحذر من اتباع سياسات كانت سبباً في إفقار الشعب السوري واندلاع ثورته على الظلم والفقر والفساد. فالتحديات الداخلية التي تتمثل بمدى القدرة على رفع الظلم عن شرائح كبيرة من أبناء الشعب السوري، وكذلك بتحقيق العدالة الاجتماعية عبر سياسات اقتصادية واجتماعية تنتشل الغالبية العظمى من السوريين من الفقر المدقع، والبؤس الذي عانوه نتيجة عقود من التمييز والاستغلال والفساد، تُعدُّ من أخطر التحدّيات. وكذلك إعادة دوران عجلة الإنتاج عبر إعادة بناء مصانع الطاقة وتأمين المحروقات، والاستفادة من خبرات السوريين جميعاً في إعادة بناء البلاد واقتصادها.
أما التحدّيات الخارجية التي تقف في وجه الحكومة من أجل إعادة بناء الدولة، فهي استمرار العقوبات الغربية، والأميركية منها خصوصاً، والقيود المالية التي تشلّ الاقتصاد السوري، واشتراط رفعها بضمانات تقدّمها السلطة الجديدة، وأهمها العمل على تحقيق انتقال سياسي سلمي ومنع عودة تنظيم داعش وحماية الأقلّيات... كلّها ترتبط مع التحدّيات الداخلية وتستكملها. وإذا كانت سياسات الأسد العدوانية تجاه دول الجوار والمجازر التي لا تحصى، والتي ارتكبها بحقّ الشعب السوري قد أدّت إلى فرض عقوبات دولية كثيرة، فإنّ تحقيق مطالب الشعب السوري في الحرّية والمساواة والعيش الكريم تُعدّ عاملاً مساعداً في رفعها. وهي عقوباتٌ إذا لم تُرفَع أو يُرفَع جزء منها، خصوصاً القيود المالية وتقييد حرّية حركة رؤوس الأموال، ستكون كفيلةً بمنع إعادة بناء البلاد وإدخالها في نفق جديد من غموض المستقبل، وربّما عدم الاستقرار، وحتى الاحتجاجات والاضطرابات، حينها سيكون من الصعب العبور من الثورة إلى الدولة المنشودة.