هل أتاكم ماذا يصنع الفراغ؟
مرّت الأيام الماضية ثقيلةً جداً على قلوب الغالبية العظمى من الأردنيين وعقولهم، وشكّلت "أزمة الأمير حمزة" المساحة الكاملة لاهتمامات الناس، حتى على مواقع التواصل الاجتماعي التي شهدت هي الأخرى "حرب اللايفات" والهاشتاغات بين مؤيد للرواية الرسمية ومتعاطف مع الأمير حمزة. أتفهّم القلق الرسمي، لكن ما لا أستطيع أن أفهمه هذه الهشاشة الشديدة والارتباك والتوتر في إدارة الأزمات، والاهتزاز عند كل حركة وسكنة، والتهويل في أغلب الأزمات حتى تصبح كبيرة الحجم، كما حدث مع محاولات إحياء ذكرى "24 آذار"، مروراً بفاجعة مستشفى السلط، وغيرها من أزماتٍ سابقة، كان يمكن التعامل معها قبل أن تتدحرج وتتفاقم.
لم يتعلّم المسؤولون الأردنيون الدرس في أهمية وجود رجال دولةٍ في الحكومة والمؤسسات، لديهم القدرة الفاعلة على القراءة السياسية والحكمة في التعامل مع الأحداث، وناصية الخطاب في التعامل مع الشارع، فشعر الجميع أنّ قلةً من المسؤولين الكبار على قدر المسؤولية والتحدّيات، واضطرت الدولة للاستعانة بوزير الخارجية، بينما غابت الحكومة تماماً عن أزمةٍ قالت الرواية الرسمية نفسها إنّها محاولة لإحداث الفتنة في أوساط المجتمع. أمّا أغلب رجال الدولة الذين استعانت بهم الحكومة فقد فشلوا في بناء رواية مُحكمة، وظهر بعضهم وكأنّه خارج العصر والتاريخ، بخطابه وعدم قدرته على الحوار مع الشارع، بينما لم تظهر نخب سياسية جديدة لديها الكاريزما والتأثير على الشارع.
كان الغياب الإعلامي وحده سبباً رئيسياً في الإدارة الضعيفة للأزمة، وإذا كان بعضهم يحمّل الإعلام الوطني المسؤولية فهو مخطئ تماماً، وظالم في حكمه، لأنّ الإعلام خضع لقوانين وأنظمةٍ وتعليماتٍ منعته من أي دور في الأصل حتى مع رواية الدولة، فضلاً عن إتاحة المساحة لحرية التعبير لاستقطاب الرأي العام الأردني في الداخل والخارج. ويكفي أنّ الدولة بدأت بتسريب روايتها عبر صحيفة واشنطن بوست التي انقلبت عليها بعد ذلك في مقالة المحلل السياسي ديفيد أغناسيوس!
في وقت كان الإعلام المحلي حائراً صامتاً، وصل مشاهدو بعض إعلاميي المعارضة في الخارج إلى 60 ألف مشاهد (وقت البث نفسه)، ما يعكس الحجم الهائل الذي خلّفه التعامل الرسمي مع الإعلام الوطني. وفي ظروفٍ مثل الأزمة الجديدة، قد تكون ربع الساعة الأولى هي الأهم في المباراة، وفي تشكيل الانطباعات وبناء الرواية والتصورات. لا تسأل بعد ذلك عن غياب مجلس النواب والشخصيات السياسية والقوى الوطنية، فالغالبية كانت في الظلام، ومغيّبة عن المعلومات التفصيلية، بينما المحللون الذين خرجوا في اللحظات الأولى للدفاع عن رواية الحكومة، من دون أن يعرفوا تفاصيلها أصلاً، فكان حالهم كساعٍ إلى الهيجا من غير سلاح!
إذا كان المفروض أن نتعلّم ونفهم من كل أزمة الدروس المستفادة، ونخرج منها بحكمة وفائدة، فإنّ الأزمة الحالية، كما أزمات سابقة، تؤكّد أن هنالك حالة فراغ سياسي، ولّد حالة من الهشاشة في صورة الدولة ومواقفها بالتزاوج مع أزمةٍ كبيرة في قنوات الاتصال والتواصل، ما نتجت عنه حالة من التوتر والاهتزاز والارتباك والتوتر والتهويل مع كل قصةٍ كبيرة وصغيرة.
للمرة الألف، قوة الدولة لا تكمن في العصا الغليظة، ولا في العنف، ولا في القمع وتحجيم الحريات في مواجهة المعارضة، بل تأتي، على النقيض من ذلك، من قوة مؤسسات الدولة وقدرتها على دمج المعارضة والأحزاب في اللعبة السياسية، وتوفير سياج حمايةٍ من داخل قواعد اللعبة السياسية نفسها، وتصعيد رجال دولةٍ يمسكون بقيم الرجولة والدولة بمعنى الكلمة، ويقدّمون رأيهم بجرأة، يأتون من أطياف المعادلة السياسية، ويحصّنون الدولة من الخفّة السياسية والسذاجة في قراءة الأحداث.
قبل أشهر قليلة، وجّه الملك الحكومة إلى إعادة النظر في التشريعات الناظمة للحياة السياسية. وبعث برسالة إلى مدير المخابرات العامة لترسيم دور المؤسسة في المجال الأمني الاحترافي. وكان قبل ذلك قد قدّم للشعب الأردني أوراقاً نقاشية مهمة، تحمل رؤيةً عميقةً لمستقبل البلاد. دعونا نمضي في هذا المسار الآمن، ونُحدث انطلاقة جديدة مع المئوية الثانية، ونستخلص العبر والحكمة من الأزمات، ذلك أن حالة القلق التي حدثت تعكس محبة للأردن والاستقرار، وحرصاً شعبياً جارفاً على حماية ما تم إنجازه في دولةٍ وقفت في وجه العواصف، وصمدت وأثبتت للعالم أنّها صلبة من صلابة الصخور التي نحتها الأجداد، ليصنعوا وطناً استوعب الجميع، واستقبل الضيوف، وقدّم رسالة عروبية وإسلامية، عنوانها الاعتدال والتسامح والاستيعاب.