نُخَبُ المعارك المزيفة
أثار تكريمُ مُدرّسٍ تلميذتِه المُرسّمة في "البكالوريا" (الثانوية العامة) بمناسبة قرارها ارتداء الحجاب، وإقامته لها حفلاً صغيراً على هامش الدرس، بطلب من والدها، صخباً وجدلاً بين نُخَبٍ تونسية إعلامية وحقوقية، دانت ما قام به الأستاذ، معتبرةً أنّه تعدّى دورَه التربوي ليمارس دوراً دعوياً دينياً لا شأن له فيه، وهو الذي نزل عند طلبِ عائلة تلميذته تحفيزاً للفتاة في سنةٍ دراسيةٍ مهمّة تفصلها عن دخول الجامعة، وفي مرحلة عمرية حسّاسة نسبياً، تسعى البنت خلالها للإجابة عن أسئلة تتعلّق بهُويّتها وذاتها، بقطع النظر عن خياراتها. تزامن التنديد بحركة الأستاذ "المُتطرّفة" مع ضغط على الفتاة الشابة، التي تساءل بعضهم عن سبب سعادتها بارتداء الحجاب إلى درجة قبولها التكريم، في استغرابٍ تام من سلوكها.
تسبّبت الهجمة على الأستاذ، وعلى الفتاة، في نقاشٍ لا بداية له ولا آخر في مواقع التواصل الاجتماعي، في تبادل للتهم والنعوت، والعودة إلى الإشكاليات الهووية المُفخّخة، التي كانت أحد أسباب تعثّر التجربة الديمقراطية قبل انتكاستها. لسان حال الرافضين للتكريم يقول إنّ حجاب البنت في عقلها وليس في قطعة قماش لها دلالات سياسية أكثر منها دينية، بحسب تعبيرهم. في مقابل ذلك، تَرُدُّ فئةٌ واسعةٌ بقولها إنّ الحقوق لا تتجزّأ، والأصل في المدنية الحديثة حرّية الأفراد، ما لم تَمُسَّ حرّيات غيرهم، كما هو الأمر في مقاصد الشريعة الإسلامية.
عوضَ أن يُسهم المُثقّف في فهم الظواهر الاجتماعية المحيطة به، وكشف عللها وحلول بعضها، أصبح ظاهرةً تستوجب الدراسة والعلاج أحياناً
ولسائلٍ أن يسألَ عن جذور نُخَبِ المعارك المُزيّفة في مجتمعٍ ذي أغلبيةٍ مسلمة، متصالح مع جميع الأذواق والأزياء، إذ لا يُعدّ الحجاب فيه سمة للطائفية أو التشدّد أو حتّى التديّن الملتزم أحياناً، كما لا تُمثّل فيه اللحية عند الرجل مظهراً من مظاهر الالتزام بالسنن النبوية. فسيفساء مجتمعيةٌ تجمع بين تمظهراتٍ تديّنيةٍ وذوقيةٍ مُتعدّدة، عابرة للعائلات والفضاءات الخاصّة والعامّة. لطالما استحوذت قضايا الهوية العربية الإسلامية بين نقاشات التراث والحداثة، والتقليد والتجديد، حيّزاً واسعاً من الأبحاث والدراسات في فكرنا العربي الحديث، والمعاصر، وبخاصّة منذ الثمانينيات من القرن الماضي. لكنّ الإسقاطات المجّانية لنماذج نظرية وفكرية خارجية عن هذا الفضاء المشحون بالذاكرة والتاريخ، وسلوكيات التديّن، نماذج نشأت وتولّدت في سياقات مختلفة، ومن ثمّ، محاولة نشرها بكثير من التعالي والتكبّر والثبوتية، تسبّبت في بروز حالة اغتراب نُخبوية عن مجتمعاتها، وعوضَ أن يُسهم المُثقّف في فهم الظواهر الاجتماعية المحيطة به، وكشف عللها وحلول بعضها، أصبح ظاهرةً تستوجب الدراسة والعلاج أحياناً.
كانت القراءة الليبرالية إحدى قراءاتٍ مُتعدّدةٍ لهذا التراث، فنُظر إليه من مرجعية غربية. لقد اوجدت قضية الأصالة والمعاصرة استشكالاً، يتّصل، أولاً، بالحداثة عموماً، فإذا كان التراث يُمثّل مُعطىً ماضياً، وكانت الحداثة تُمثّل واقعاً حاضراً، فإنّ السؤال يتمحور حول كيفية التعامل مع التراث أو النهوض بالتراث من دون التخلّي عن وعي الاستجابة للحداثة وتحدّياتها؟ ... يبدو جلياً بالنسبة للمُفكّر محمد عابد الجابري (2010) أنّ كلّ من يبتغي القطيعة التامة مع التراث والانخراط في مشروع الحداثة بصورة مطلقة، لأنّه يؤمن ببداهاتها، إنّما يزعم كونيّة اللحظة التاريخية للحداثة في صورتها الغربية، أي؛ تأبيد التاريخي، ويتناسى أنّ الحداثةَ محكومةٌ بصيرورة تاريخية ما.
شهدنا حركة إسلامية تُرشّح لأهم بلديات البلاد امرأة غير مُحجّبة، في الوقت الذي تروّج فيه بعض أحزاب اليسار صوراً لبعض منتسباتها من المُحجّبات
وينبغي، والحال كذلك، ضرورة فهم الحداثة من زاوية حسبانها عملية نسبية وتاريخية، فإذا كنّا نفهم التراث بأنّه تاريخيٌّ ونسبيٌّ، فإنّ الحداثةَ هي، أيضاً، كذلك، فليس ثمّة حداثةٌ مطلقةٌ وكلّيةٌ، ولكن بالأحرى، هناك حداثة تختلف من وقت إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. إنّ طلب الحداثة، بالنسبة للجابري، لا يستدعي ضرورة رفض التراث أو نبذه جانباً، بل يتطلب الموقف الصحيح منه الارتقاء بمستوى التعامل معه نحو لحظةِ المُعاصَرة، التي تعني المُواكبةَ للعصر. ولكنّ الحداثة في الفكر العربي المعاصر لم ترقََ بعد إلى هذا المستوى، بسبب طلبها لمشروعيّتها ومصداقية خطابها من الحداثة الأوروبية، التي تتّخذها مرجعاً وأصلاً.
في تونس، وبالعودة سنواتٍ قليلة إلى الوراء، وفي خضمّ التنافس السياسي في العشرية الديمقراطية، شهدنا حركة إسلامية تُرشّح لأهم بلديات البلاد امرأة غير مُحجّبة، في وقتٍ تروّج بعض أحزاب اليسار صوراً لبعض المُنخرطات فيها ومنتسباتها من المُحجّبات. وبعيداً من الدخول في النيات الانتخابية والتنافسية "المشروعة" للأحزاب، والتي تُمثّل إقراراً منها بتنوّع الفضاء المواطني، كانت هذه الخطوات فرصة لنخبٍ مسكونةٍ بأيديولوجيا يعقوبية استئصالية لأداء بعض المراجعات، والكفّ عن التعامل مع حقائق الواقع بتعال، والمضي إلى البحث عن إجاباتٍ لمواضيع أكثر أهمّية ودقّةً من ناحية الجدوى والتحدّي. وكما ضيّعت نُخب الصراعات الفرصة لإنجاح التجربة الديمقراطية التونسية بتوثيق مرتكزاتها القِيَمِيّة والنظرية استلهاماً من شعارات الثورة الرامية إلى الكرامة والحرية، ها هي تواصل نهجها المُعتادَ على مرّ عقود في إهمال القضايا المركزية، والانشغال بتتبّع أذواق الناس وأمزجتهم، وبإحداث استقطابٍ مُجتمعيّ يزيد من تمزيقه وسباته. في وقت ترزح فيه البلاد تحت حكم فردي أسدل ستاره على مناخ الحرّية، وسلّط أجهزته على المعارضين والمنتقدين له من جميع الطيف السياسي والفكري، وحوّل الفضاء العام إلى سجن مفتوح أو محكمة دائمة الانعقاد بتهم جاهزة، يرى هؤلاء أنّ توجيه أقلامهم وألسنتهم للتدخّل في خيارات المواطنين الشخصية أجدى وأكثر أهمّية.
من الحماقة المُسترابَة أن تثير نُخَبُ الأيديولوجيات الكاذبة قضايا مُفتَعَلة ومُلتَبِسة، في الوقت الذي تُكمّم فيه السلطة الأفواه
أعلن بعضُ المتّهمين زوراً في قضية التآمر على أمن الدولة دخولهم معركة الأمعاء الخاوية ضدّ السلطة، الذين تقول لجنة الدفاع عنهم إنّ تلك السلطة تحتجزهم خارج إطار القانون بعد انتهاء آجال الإيقاف التحفّظي، ومدّته 14 شهراً، ومن دون إصدار حكم ضدّهم؛ قضية يحاكم فيها عددٌ من المناضلين والنشطاء، منهم اليساري والليبرالي والإسلامي، بسبب رفضهم الانقلاب، وتمسّكهم بوطن حرّ وديمقراطي يتّسع لجميع مواطنيه، ليدفعوا في ذلك ثمناً باهظاً. وآخرون معتقلون منذ أشهر طويلة، من أجل حرّية الكلمة والموقف، جميعهم كانوا أحقّ في الحديث عنهم، وتوجيه السهام المسمومة إلى خصوم الحرّية والحقوق الإنسانية.
عندما يشبّ حريقٌ في بيتك، ويدعوك أحدهم إلى الصلاة والتضرّع إلى الله، فاعلم أنّها دعوة خائن، لأنّ الاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، هو الاستحمار، حتّى وإن كان عملاً مُقدّساً. هكذا لخّص الموقف علي شريعتي (1977)، رحمه الله. وإن عرّف بعضُ المختصّين الحكمة بأنّها وضع الشيء في موضعه، فإنّ من الحماقة المُسترابَة أن تثير نُخَبُ الأيديولوجيات الكاذبة قضايا مُفتَعَلة ومُلتَبِسة، في الوقت الذي تُكمّم فيه السلطة الأفواه، وتتراجع فيه مُؤشّرات البلاد في جميع المجالات.