بحثاً عن دولة الحقوق والمواطنة في تونس

04 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

مع اقتراب محطّة الانتخابات الرئاسية في تونس المزمع تنظيمها الأحد المقبل، يتصاعد الجدل والحَراك السياسي، افتراضياً وميدانياً، تنديداً بإجراءات السلطة القائمة الخانقة للحرّية والرافضة لتوفير مناخ تنافسي تعدّدي خلال الانتخابات، وتلاعب أجهزة النظام بإرادة الناخبين عبر فرز المُرشَّحين وإقصاء بعضهم وسجن بعضهم الآخر، وحرمان آخرهم، المُرشّح الرسمي والجَدّي الوحيد، العيّاشي زمّال، من القيام بحملته الانتخابية بعد اعتقاله وتوجيه عشرات التهم إليه.
يُعَدُّ السياق الانتخابي الحالي انتكاسةً ورِدَّة على ما عاشته تونس خلال المناسبات التي تلت الثورة عام 2011، والتي تميّزت جميعها بتعدّد المُترشِّحين وتوفّر حدّ كبير من ضمانات الشفافية والنزاهة واستقلالية الهيئات الانتخابية، إلى جانب تنوّع المنابر الإعلامية والحضور القوي للجمعيات والمنظّمات الرقابية، إلّا أنّ سفن الحرّية تسير بما لا تشتهي رياح السلطة.
بقدر ما يتقدّم مُرشَّح النظام، الرئيس الحالي قيس سعيّد، في سباق انتخابات قدّت على قياسه، ليركض في مضمارها بمفرده، وليسابق فيها ظلّه، فإنّه يركض متعثّراً بسبب خوفه من فقدان الكرسي وخسران أمجاد الزعامة الشعبية الموهومة، ما جعله وأعوانه يقعون في سوء أعمالهم وشرّ تدبيرهم. إذّ مثّل مُقترَح النوّاب أنصار الرئيس في مجلس الشعب تنقيح القانون الانتخابي وتعويض رقابة القضاء الإداري (كان شوكة في حلق النظام في ما يتعلّق بالنزاع حول الترشّحات)، برقابة القضاء العدلي الخاضع لتعليمات وضغوط السلطة التنفيذية، قبل أيّام من الانتخابات... نقول، مثّل مُقترَح النوّاب هؤلاء خطوةً غير مسبوقةٍ تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من الفجاجة والوقاحة في استفزاز الرأي العام، وتحدّي الشعور الجمعي ومؤسّسات الدولة وأعرافها بالبلطجة القانونية والتمرّد، حتّى على نواميس التسلّط والاستبداد المُتعارَف عليها، كما عبرّت هذه الخطوة عن قلق النظام من وجود جهةٍ في مؤسّسات الدولة تعزف خارجَ إيقاعه، وتكشف خروقاته.
حرّكت فجاجة هذا النظام أصواتاً كثيرة، منها من كان مسانداً لقيس سعيّد نفسه، وأخرى من داخل مجلس نواب الشعب، ناهيك عن أصوات المعارضة التي تقاسمت موقفاً رافضاً لهذا السلوك، وهذا التمشّي التسلّطي، عبرت عنها مسيرة 22 سبتمبر/ أيلول الماضي، التي ضمّت جُلَّ الطيف السياسي التونسي تقريباً، بتناقضاته واختلافاته، من اليسار إلى اليمين، تحت قيادة مجموعةٍ من الشباب المُنتظِم في الشبكة التونسية للحقوق والحرّيات.

ستكون مكاسب النظام التونسي مغموسةً بالدسائس والمظالم، ما يحرّك النضال، ويدافع لإرساء دولة الحقوق والمواطنة

كانت هذه المسيرة نوعيةً وفارقةً في مسار مقاومة الانقلاب، إذ مثّل تصدّر جيل جديد الحراك المُعارِض، أغلبهم في عقده الثاني، بشعارات سياسية غير كلاسيكية، متجاوزةً أحياناً حدود الأخلاقويات السياسية التقليدية في تعبيرات الرفض والغضب، حدثاً ذا دلالات سياسية واجتماعية عميقة. فلم تعد المعركة استقطاباً أجوف كما يريد بعضهم تسويقها بغرض التشويه والتهميش، بين نُخَب كلاسيكية وأخرى من خارج الصندوق، أو بين جيل سياسي متهالك يُشعل فتيلَ صراعاته الذاتية على حساب مصالح الدولة والشعب من أجل شهوة السلطة، وإنّما أكّد الحضور القوي والنوعي لجيلٍ شابٍّ، نشأ في مناخ الثورة والحرّيات وتشبّع بقيم المواطنة، أنّ عنوان المعركة كان (ولا يزال) الدفاعَ عن الحقوق والحرّيات والتصدّي لآلة القمع وتكميم الأفواه وتحويل الوطن من مجتمع سياسي مزرعةً خاصّةً، وتحريف القوانين من أنّها عقد اجتماعي قيوداً تتلاعب بها السلطة للتحكّم في رقاب رعيتها.
أغلب هؤلاء الشبّان، ومن في جيلهم، فتحوا أعينهم خلال تجربة ديمقراطية وفّرت هوامشَ واسعةً من الحرّية في جميع المجالات، عرفوها في محطّات انتخابية تنتهي بالتداول على السلطة، من دون أن يسجن رئيسٌ جديدٌ سابقَه، وبمناظرات بين المُترشّحين، وبنقد عالٍ للحكام، وبحادثة خسارة رئيس (الباجي قائد السبسي) لقضية رفعها ضدّ مواطن، وبتعدّد محامل الاهتمام بالسياسة وأدوات الضغط على السلطة، ليجد حاضره ومستقبله في قبضة شخص واحد شعاره "لا رأيكم إلّا ما أرى".
جيل جديد يواكب مُستجدَّات العالم عبر ثورة رقمية تكنولوجية أتاحت له ممارسة الحرّية في اختيار ما يشاهده وما يسمعه وفتحت له خيارات عديدة في الفهم والإدراك والتحليل، حيث لا يتقبّل عقل هذه الفئة حياةً من دون وسائط اجتماعية أو هواتف ذكية، كما لا يستوعب فكرة الرقابة على اختياراته وأذواقه، وهو ما يُؤثّر حتماً في تمثّلهم أيضاً لحقوقهم ولحرّياتهم المدنية والسياسية، التي ينظرون إليها جزءاً متأصّلاً من ذاتيّتهم وذواتهم، ويدافعون عنها بأدواتهم، وضمن أنساقٍ لغويةٍ وجسمانيةٍ خاصّةٍ، تقدّم حرّيتهم في التفكير والممارسة على موازينَ أخلاقيةٍ أخرى، بشكل مخالف لأجيال سابقة عنهم تتعامل مع ما أتت به الثورة كلّه من قيم مكاسبَ إضافيةً يجب الحفاظ عليها، من دون الخروج عن إيتيقا (أخلاق) الفعل والخطاب السياسي المُتعارَف عليها.
توسّعت دائرة الاحتجاج ضدّ السلطة في تونس مع بداية الزمن الانتخابي، وتعزّزت روافدها بارتفاع نسق المظالم السياسية والانتخابية وتمسّك المُرشّح المُعتقَل العياشي زمّال بالمنافسة، ما كشف مخاوفَ سلطات الانقلاب من شبح الهزيمة أو من خروج بعض الناخبين من دائرة المقاطعة والمشاركة، لتفضح ردَّاتُ فعلِ النظام وأنصاره نواياهم في تزوير الإرادة الشعبية.
وبعيداً من تخمين سيناريوهات المرحلة المقبلة، مع رجحان كفّة بقاء قيس سعيّد في كرسيّه، سيكون كلّ "كسب" يُحقّقه النظام مشوّهاً ومغموساً بالدسائس والمظالم، التي ستكون بدورها مُحرّكاً للنضال، ودافعاً قوياً لأجيال مختلفة تسعى لإرساء دولة الحقوق والمواطنة.

B77CBD47-937D-477E-B99D-EEE3A5A5EC3C
محمد خليل برعومي

باحث تونسي في علم الاجتماع