نوستالجيا أردنية وعربية
لعلّ أكثر ما يلفت الانتباه في حواريات المئوية الأردنية (يعقدها أسبوعياً معهد السياسة والمجتمع في الأردن، بالتعاون مع صندوق الملك عبد الله الثاني للتنمية) هي تلك اللغة المسكونة بنوستالجيا للمراحل السابقة، بخاصة في المئوية الأولى من عمر الدولة، والأكثر غرابةً أنّها تظهر في خطابات جيل الشباب الذي لم يكن موجوداً خلال تلك المراحل ولم يعشها، لكنّه عندما يستذكرها يقدّمها وكأنّها "مرحلة ذهبية" كانت تمرّ بها البلاد!
صحيحٌ أنّ الأردن خلال المائة عام، بخاصة منذ الخمسينيات وحتى السبعينيات، تعرّض لتحدّياتٍ وجودية، وتمكّن، على الرغم من كلّ الظروف الصعبة والمعقدة من الصمود والصبر والعبور، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّه لم تكن هنالك أخطاء أو أنّ الجميع كان سعيداً بما تحقق، إذ دوماً كانت هنالك انتقادات ومعارضة وتجاذبات سياسية وانقسام في أوقات كثيرة في أوساط الشارع والنخب السياسية.
إذاً، مثل هذه "الحالة النفسية" لدى المجتمع، وفي أوساط الشباب تحديداً، تستدعي تفسيراً وتحليلاً، فهي من ناحية تحمل طابعاً إيجابياً يتمثل في تقدير ما قامت به الأجيال السابقة، بخاصة في أوساط النخب السياسية، من بناء مشروع الدولة وتطوير الحياة العامة، ومواجهة التحدّيات والصعوبات، لكنّها (النوستالجيا) تكشف أيضاً عن عدم ثقة وقلق من الواقع الراهن، وشعور بعدم طمأنينة تجاه المستقبل، وتجذّر ملحوظ وعميق للأزمة بين الدولة والمجتمع.
في الحوارية الأخيرة، أشار سياسيون ومثقفون أردنيون (جمال الطاهات، وسائد كراجة) إلى أهمية الانتباه إلى أنّ الرؤية والسياسات والأدوات التي كانت صالحة لتلك الحقبة السابقة ليست بالضرورة مناسبة للوضع الراهن أو للتخطيط للمستقبل، وإلى التمييز بين مرحلة البناء الأولية التي كانت تستدعي وجود نخبة متقدّمة في النظام السياسي تقود الدولة، وتخوض غمار المحطات الفاصلة، والوضع الحالي الذي أصبح فيه المجتمع في حالة متقدمة ثقافياً وسياسياً، ولا يتقبل نهج "الوصاية" الرسمية السابقة، ما يستدعي ضرورة توسيع قاعدة التمثيل السياسي في مؤسسات الدولة كافة، والتفكير في التطوير المطلوب على النموذج الأردني في المرحلة المقبلة، كي يعبر التحدّيات الحالية التي تختلف طبيعتها عما سبق.
وقد يبدو منطقياً القول إنّ قوة الماضي تكمن في ما تحقق من إنجازات مهمة، لم يكن يشعر بها كثيرون إلّا بعدما بدأنا نواجه ضبابيةً في الرؤية وتعريف الأولويات والمهمات المقبلة، بخاصة أنّ هنالك أجيالاً جديدة من الشباب الأردني تعاني ظروفاً اقتصادية صعبة، وشعوراً بالتهميش السياسي، والأخطر حالة "عدم اليقين" التي تسكنها تجاه إمكانية تجاوز ذلك، والولوج إلى المستقبل ومئوية الدولة بروح جديدة تحمل الأمل والاطمئنان بأنّنا نسير على الطريق الصحيح.
في المقابل، من الضروري الاعتراف بأنّ النوستالجيا لا تقتصر على الأردن، فهي قائمة في دول عربية كثيرة، حتى التي عاشت عقوداً من الحكم السلطوي والاستبدادي. ويبدو أنّ أغلب المجتمعات العربية تعيش اليوم حالة من "فقدان التوازن" والشعور بالقلق من المسارات الراهنة.
لماذا؟ لأنّ عهد المشروعات القومية والوطنية التي كانت تتبناها الأنظمة، وبنت شرعيتها السياسية عليها، ولّى وانتهى، وهو أمرٌ قد ينظر إليه كثيرون بوصفه طبيعياً، ومرتبطاً بالتغيرات الجوهرية التي تصيب العالم، بخاصة مع الألفية الجديدة، ودخول عصر ثورات التكنولوجيا. لكن، مع الحالة العربية، ارتبطت الألفية الجديدة بأحداث جسام هزّت النظام الرسمي العربي نفسه، وأحدثت فراغاً استراتيجياً ملحوظاً وضعفاً كبيراً على الصعيد الاستراتيجي بالتوازي، والتزاوج مع أزمات البطالة والفقر والحرمان الاجتماعي، وانهيارات في السلطة الأخلاقية للدولة، مع تفشّي الشعور بانتشار الفساد السياسي، ما أطاح أنظمة عديدة في مرحلة الربيع العربي.
طالما لا يمكن العودة إلى مرحلة الماضي، ولا سياساته وأدواته، فإنّ عدم تقديم تصوّر جديد للأجيال الشابة وللمجتمعات يفسّر الحنين إلى الماضي بوصفه احتجاجاً شعورياً عاماً على الوضع الراهن، من دون تقديم بدائل سياسية توافقية، منسجمة مع المتغيرات الضخمة، وينتهي الأمر إلى انتشار شعور عام بأنّنا "عالقون" ما بين ماضٍ لم يكن مثالياً لكنّه بالمقاييس كافة أفضل من الراهن.