نحو الإسراع إلى مؤتمر فلسطيني وطني جامع

نحو الإسراع إلى مؤتمر فلسطيني وطني جامع

07 مارس 2024
+ الخط -

هناك إجماعٌ شبهُ كلّي عند الناشطين والكتّاب وصنّاع الرأي العام الفلسطيني عن تشخيص مأزق النظام السياسي الفلسطيني والضرورة الوجودية للخروج منه. هناك إجماعٌ واضحٌ أيضاً في إدراك طبيعة المرحلة الحالية بعد 7 أكتوبر وعملية طوفان الأقصى والحرب الهمجية البربرية الدموية، حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة وإعادة احتلال الضفة الغربية. يدرك الجميع كذلك أن الثمن الذي لا يتصوّره عقل الذي يدفعه الشعب الفلسطيني يوميا أمام آلة التجويع والإبادة الجماعية الإسرائيلية من ناحية، وصموده الأسطوري في مواجهة واحد من أعتى الجيوش في العالم لا يمكن أن يُفضي إلى العودة إلى مسارات تسويةٍ عبثية، أو إلى القبول بالضرائب الكلامية الدولية عن حلّ الدولتين، بينما تستشري على الأرض كل الإفرازات الكارثية لاتفاقية أوسلو. وذلك فيما الدم الفلسطيني المسفوك من أجل الحرية والوطن أغلى وأنفس وأثمن من ذلك بكثير، ولا أعتقد أن هناك من سيشذّ عن هذا الإدراك بعد هذا الكم الهائل من التضحيات.

هناك اتفاق شبه تام أيضا على أن الخروج من المأزق يحتّم جذريا إعادة بناء المشروع الوطني التحرّري وجمع الكل الفلسطيني من خلال إعادة بناء ديمقراطي للمؤسّسات، وخصوصاً منظمة التحرير، بما فيها انتخاب مجلس وطني جديد يشارك في انتخابه كل الفلسطينيين. يمكن في هذا السياق الإشارة إلى عشرات من المقالات والبيانات والحوارات التي ظهرت في الإعلام ومنصات التواصل، ولعلّ واحداً من أكثرها شمولا في تحليل وتشخيص الحالة مقال مصطفى البرغوثي في "العربي الجديد" في 20/2/2024.

لكن من الأهمية بمكان الالتفات في هذا السياق إلى أن كل هذه المقاربات لا تتطرّق جوهرياً إلى كيفية تطبيق هذه الرؤية على أرض الواقع، وترهن مصير مسار الخروج من المأزق إلى ترتيبات وتوافقات بين الفصائل، ما سيؤدّي، بالضرورة، إلى إعادة إنتاج الأزمة. يدرك الجميع أن ترتيبات الفصائل ستُفضي إلى ترتيبات بين حركتي فتح وحماس أو بدقّة أكبر بين "حماس" ومجموعة متنفذة في "فتح" تشكل قيادة السلطة الوطنية، وهي المرتهنة لاتفاقيات أوسلو وللتنسيق الأمني مع إسرائيل، وليس مع فتح الكوادر الوطنية المعارضة. بمعنى آخر، وبحسن نية، تقوم كل القوى والتيارات والشخصيات التي في معظمها مستقلّون، ومن مركبات المجتمع المدني، والتي تملك قراءة وتشخيصاً صحيحاً للأوضاع الحالية، وتملك رؤية صائبة لمقتضيات ترتيب البيت الفلسطيني، لكي يرقى إلى مستوى التضحيات التي قدّمها ولا يزال الشعب الفلسطيني، وقلّ مثيلها في التاريخ الإنساني لثورات التحرّر من الاستعمار، تهمّش نفسها من خلال تسليم عنق هذا المشروع لمن فشل في حل أزمة الانشقاق الذي يقترب من نهاية عقده الثاني، والمسؤول إلى درجة كبيرة عما آلت إليه أوضاع القضية الفلسطينية، وخصوصاً تمادي إسرائيل في العدوان والاستيطان، وتمادي عدّة دول عربية في التطبيع.

يقف الفلسطينيون أمام مرحلة حسّاسة جدا يجري فيها استمرار حملة الإبادة الجماعية والتجويع

هناك تسليم خاطئ وغير مفهوم عند هذه الأوساط بأن النظام السياسي الفلسطيني يقتصر على الفصائل، والتي أصبح بعضها، مع كل الاحترام لتاريخها النضالي، هياكل غير قائمة فعليا سوى من خلال احتفاظها بتمثيلها في مؤسّسات منظمة التحرير. هذا التسليم بالوضع الفصائلي القائم ينم عن فشل في رؤية كامل الحيز العام الذي يمتلكه الشعب الفلسطيني بكل أطيافه وأماكن وجوده، وأن هذا الحيز أكبر بكثير من كامل مجموع الفصائل، بما فيها حركتا فتح وحماس، وأن تجاهل هذا الحيز وتهميشه أو تفريغه من قدراته الهائلة يصبّ، في النهاية، في صالح الاحتلال والاستعمار الصهيوني. بينما المطلوب أن يستثمر هذا الحيز العام كل قدراته وقوّته ليس فقط في مساندة الصمود والحق الفلسطيني، وإنما أيضا بلعب دور مباشر ومؤثّر في ترتيب البيت الفلسطيني.

ألا ينبغي لمئات، وربما آلاف المنظمات الفلسطينية المدنية العاملة في الوطن وبلاد الشتات، وفي كل أماكن وجود الشعب الفلسطيني، والتي ساهمت مساهمةً أساسيةً في إخراج الملايين إلى الشوارع وبشكل أسبوعي في معظم الدول، ألا ينبغي لها ولأعضائها وناشطيها أن يكونوا شركاء مقبولين، بل مرحّبا بهم في صياغة الوضع الفلسطيني الجديد وبنائه والتأثير فيه؟ هل يُعقل أن يقتصر دور المثقفين والناشطين ومؤسّسات المجتمع المدني الفلسطيني على الكتابة والتحليل والتنظير والمشاركة في الاحتجاج وفي نشر الرواية الفلسطينية في الإعلام؟ هذه كلها مساهماتٌ مهمةٌ جدا وسلاح مهم في إيجاد الرأي العام العربي والدولي، وفي مساندة المقاومة وإبراز الحق الفلسطيني، ولكن من غير المعقول أن يقتصر دور هؤلاء على ذلك، ناهيك أن يسلّموا هم بذلك. ألا يجدُر بأن يأخذ هؤلاء، وخصوصا الأجيال الفلسطينية الشابة والنساء حصريا، دورا فاعلا وساطعا في أي جهدٍ لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني؟ وهل يعقل أن يُترك للنظام السياسي نفسه، وهو المشكلة بعينها، أن يكون مسؤولا عن الحل وأن يبادر بنفسه لإعادة البناء؟ الخبرة والتجربة الفلسطينية نفسها تبرهن على عقم هذا التعويل، وأنه، في أحسن الأحوال، سيعيد هذا النظام الفصائلي إنتاج نفسه وعلى الأغلب بنسخةٍ أسوأ.

أهمية المبادرة بإصدار نداء لعقد مؤتمر سريع بعنوان ضرورة توحيد القيادة الفلسطينية لتكون مرجعية وطنية لأي حكومة تشكل بعد وقف العدوان

أتفهم أننا في هذه الأيام بالذات، وفي الأسابيع المقبلة، نقف أمام مرحلة حسّاسة جدا يجري فيها استمرار حملة الإبادة الجماعية والتجويع، ويصبح تخفيف معاناة شعبنا أولوية خاصة في رمضان، ولهذا فكل الجهود تبذل حاليا في سبيل التوصل لهدنة/ وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية وقطع الطريق على إسرائيل والولايات المتحدة من تحقيق أحلامها بإيجاد متعاونين فلسطينيين وعرب لعمل ترتيباتٍ على مقاسهم لما أسموه "اليوم التالي". ومن هنا أهمية المبادرة بإصدار نداء يوقع عليه المئات لعقد مؤتمر سريع بعنوان ضرورة توحيد القيادة الفلسطينية لتكون مرجعية وطنية لأي حكومة تشكل بعد وقف العدوان. ولكن طريق التخلص من الاحتلال والاستعمار لا تزال طويلة ومليئة بالعقبات والمخاطر، وهذا يتطلب أن نتطلّع ونبادر ونخطط ونستنفر كل القوى والأفراد والمنظمات الفلسطينية لأخذ دور فاعل في الدفع البناء إلى ترتيب البيت الفلسطيني، عبر الانتخاب الديمقراطي للقيادة والمؤسّسات الفلسطينية للمرحلة المقبلة، تستند في شرعيتها إلى مشروع فلسطيني وطني تحرّري. من نافل القول الإشارة إلى أن جهوداً جمّة، مقابل هذا التوجّه الوطني الحريص، تبذلها قوى عربية ودولية تشمل أنظمة ودولاً قوية ومتنفّذة وربما تواطؤ صامت لأطراف فلسطينية معينة لكيلا تكون النتيجة كما نصبو، وإنما بالعكس تماما.

ولكيلا يصبح هذه المقال ديباجة أخرى من الوعظ والتحليل والاجتهاد النظري، أدعو كل متبنٍّ فكرة مؤتمر الشعب الفلسطيني التي بدأ التحضير لها صيف عام 2023 قبل "طوفان الأقصى"، وقسم مهم منهم مبادرون أيضا في عقد المؤتمر الطارئ لتوحيد القيادة بأن يوحّدوا جهودهم لتكامل كل المبادرات وتضافرها، والعمل بزخم أكبر وبجهود متفانية لعقد مؤتمر فلسطين في أسرع وقت، لكي يكون جمعاً فلسطينياً شاملاً للكل الفلسطيني، بما فيها الفصائل والقوى السياسية ومركبات المجتمع المدني الفلسطيني، مموّلا ذاتيا بعيدا عن أي وصايةٍ أو ولاء سياسي أو تنظيمي، وأن يعقد في دولة صديقة لفلسطين. هذه فرصة أتاحتها بطولة غزّة البطلة وصمودها، رغم الكارثة الإنسانية التي أحدثتها البربرية والهمجية الإسرائيلية، لكي تتضافر كل شرائح الشعب الفلسطيني، وأطيافه وأبنائه، للاتحاد والتعبير عن الإرادة الفلسطينية في استعادة العدل والحرية والوطن. لنضع هدفا بعقد هذا المؤتمر في ذكرى النكبة 15 مايو/ أيار المقبل على أبعد حد.

8F8E3687-5055-4FF2-8C2E-A192234EABB5
باسل غطاس

نائب عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي (التيار القومي) في الكنيست الإسرائيلي.