07 مارس 2024
من إنجازات أسطول الحرية الثالث
انتهى أسطول الحرية الثالث، قبل أيام، كما كان متوقعا، باعتراضه من السفن الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، فيما يمكن تسميته قرصنة وعدواناً ترتكبهما دولة بحق سفينة تحمل علم دولة أخرى (السويد). ويأتي هذا الأسطول الثالث بعد ثلاث سنوات، توقفت فيها المجهودات الدولية بصدد كسر الحصار على قطاع غزة، حيث كان الأسطول الأول عام 2011، والثاني عام 2012. وقد واجهت هذه المحاولات ما واجهه الأسطول الثالث من عمليات ضغط ومناورة إسرائيلية لمنعها من الإبحار أصلا. وكانت إسرائيل قد نجحت في إعاقة خروج السفن وتعطيلها، ولاقت السفن التي أبحرت باتجاه غزة ما لاقته سفينة المريانا، والتي كنت على متنها أربعة أيام برفقة الرئيس التونسي السابق، الدكتور منصف المرزوقي، ونشطاء أوروبيين وصحافيين، وكنّا لا نتعدى جميعنا الثمانية عشر مشاركاً.
قبل أن ألج في تلخيص التجربة ودروسها، من المهم توضيح أن أساطيل الحرية إلى غزة، وما سبقها من محاولات بحرية لكسر الحصار، عمليات مركبة معقدة ومكلفة، وتحتاج تحضيراً كثيراً، وتتشابك بها قضايا ذات طابع دولي، من حيث السيادة والقانون الدولي وغيرها. ولهذا، المشكلات والمعوّقات كبيرة. وكان للنهاية الدموية القاسية لأسطول الحرية الأول، بفعل الاعتداء الإجرامي للبحرية الإسرائيلية على سفينة مرمرة تأثيرها الكبير على ما تلاه من محاولات لكسر الحصار. ولعل أصعب قضيّتين تواجه المنظمين هما ميناء الانطلاق الذي يجب أن يسمح بانطلاق السفن باتجاه غزة، وهذا يتطلب موافقة الدولة التي ينطلق منها، ما يعني بالضرورة أن تكون هذه الدولة مؤيدة أهداف الأسطول، وداعمة له، وقادرة على رفض الضغوط الدولية، وخصوصاً من إسرائيل وحلفائها، ورأينا أنه، حتى في ظل الحكومة اليونانية اليسارية والمؤيدة للشعب الفلسطيني، لم يكن الإقلاع سهلا، وتعرضت الحكومة التي تعاني من الأوضاع الاقتصادية الخانقة إلى ضغوط كبيرة، لمنعنا من الإقلاع لملاقاة سفينة المريانا في عرض البحر.
القضية الثانية، ضرورة أن تكون طواقم السفن نفسها من الناشطين الملتزمين بأهداف الأسطول، وأن تكون السفن نفسها تحت تصرفهم، أي ليست مستأجرة من شركات تجارية لها مصالح، خاضعة للقوانين البحرية التجارية. في السنوات الأخيرة، يشرف على تسيير الأساطيل ائتلاف من منظمات دولية في أوروبا وكندا وأميركا، وهذا أيضا يزيد من مصاعب التنفيذ وعقباته.
كان الهدف المعلن الأول لأسطول الحرية كسر الحصار والوصول إلى غزة، وهذا لم يحصل، فهل هذا يعني أن الأسطول فشل؟ على الرغم من العقبات السياسية واللوجيستية الكبيرة التي واجهت المنظمين، فإن الأسطول، وإن لم ينجح في اختراق الحصار، فقد حقق إنجازات عديدة مهمة، بل واستراتيجية، يمكن استثمارها في المستقبل:
أولاً، إعادة موضوع حصار غزة إلى جدول الأعمال العالمي والمنطقي مدة أسبوع على الأقل، في وقت غاب فيه الاهتمام العالمي بقضية فلسطين عموماً، والوضع في غزة حصريا، في خضم الأحداث المأساوية التي تلم بوطننا العربي، وكذلك الانشغال العالمي في الملف النووي الإيراني والمفاوضات الجارية للوصول إلى اتفاق نهائي بشأنه. في الواقع، لا يشكل خرق "الحصار" الإعلامي، بحد ذاته، أكثر من ضربة خفيفة لإسرائيل، المستفيدة الأكبر من الأوضاع المنطقية، وستحاول حكومة نتنياهو استيعابها وإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها. وهذا يشكل تحدياً كبيراً للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، وبكل فصائله ومؤسساته، للعمل على إبقاء حصار غزة، وكل الموضوع الفلسطيني، في الوجدان العالمي، إذ إنّها ليست مهمة ناشطي الائتلاف الدولي لفك الحصار وحدهم.
ثانياً، نجح الأسطول الثالث في هزيمة الرواية الإسرائيلية، والتي بزعمها، أن أساطيل الحرية إرهابية بحد ذاتها، أو داعمة للإرهاب، تسيّرها حركة حماس وحلفاؤها. وتستخدم إسرائيل موضوع الأسطول الأول وسفينة مرمرة التي اعتدت عليها البحرية الإسرائيلية بالحديد والنار، متسببة بقتل تسعة ناشطين أتراك، دليلاً على ذلك. فها هي السفينة، المريانا، بحمولتها المتواضعة وناشطيها السلميين، خير دليل على نفي المزاعم الإسرائيلية. وعليه، ترسخ نهائيا أن أساطيل الحرية عمل سياسي دولي قانوني وشرعي لفكّ الحصار، وأنّ المحرك الرئيسي الأساسي له الرفض الأخلاقي والإنساني لمحاصرة 1.8 مليون فلسطيني في سجن واحد كبير. وسيكون لهذا النجاح أثر كبير في تكثيف الأساطيل المقبلة وإنجاحها.
ثالثاً، كشف الأسطول نقطة ضعف كبيرة وحساسة لإسرائيل، وعن هشاشة وضعها الدولي، ودخولها ذهنيا ونفسيا إلى وضع دفاع، وكأنّ أساطيل حربية جبارة في طريقها إلى شواطئها. فقد مسكت سفينة صيادين صغيرة مثل المريانا إسرائيل من "يدها التي توجعها". وجاء صراخها وردودها العصبية والمتشنجة "على قد الوجع". فعلى الرغم من التحسن الواضح في ظروف إسرائيل الاستراتيجية، على المستوى الجيو-سياسي، وعلى الرغم من الظروف الدولية، وخصوصاً المنطقية المواتية لإسرائيل، فقد استطاع أسطول صغير، مع بضعة عشرات من الناشطين الأوروبيين، وضع إسرائيل في حالة دفاع عن النفس وفي ضيق. وبالإضافة إلى توريطها بمشكلة دبلوماسية مع السويد، ناهيك عن تعرض قادتها العسكريين، بعد اعتراض السفينة، لمساءلة قانونية في الخارج.
رابعاً، كشفت سفينة الصيد الصغيرة المريانا، وعلى متنها الثلة القليلة من الناشطين، عقدة الخوف الإسرائيلي إلى درجة الهوس، حيث اعترضها أسطول كامل من 13 قطعة بحرية (ما عددته بالعين المجردة)، ناهيك عما هو تحت الماء وفي الجو. من الممكن ألا نضع هذا الكشف في باب الإنجازات لأسطول الحرية، لكنه بالتأكيد مهم من باب التشخيص والاستفادة من المعطيات الموجودة.
خامساً، أثبت الأسطول الموقع الأخلاقي العالي الذي لا تزال تتمتع به القضية الفلسطينية، والتأييد الدولي لها، ورفض استمرار الاحتلال والحصار، وسلب الشعب الفلسطيني حريته وحقوقه المشروعة. يثير الإصرار والإرادة والالتزام اللامحدود الذي يتمتع به الناشطون والمنظمون الدوليون الإعجاب، حيث يشكّل هذا كنزا استراتيجياً، يجب أن نحسن استخدامه في الساحة الدولية، من أجل مقاطعة إسرائيل ومعاقبتها على ما تقترفه من جرائم في مواصلة حصارها واحتلالها وعدوانها.
أخيرا، هناك الكثير مما يمكن عمله لتحسين عملية تسيير أساطيل الحرية وتثميرها، هذه مهمة الشركاء الذين يتفانون في سبيل ذلك بإمكاناتهم الضئيلة. يبقى من واجبنا أن نتعاون معهم بأن نسدي المشورة، وأن نكون شركاء في التخطيط والتنفيذ، وليس فقط في الإبحار. هكذا، على الأقل في الظروف الراهنة، نبقي غزة في مركز الاهتمام العالمي والرأي الإعلامي الدولي، سعياً إلى فكّ الحصار عن غزّة، على الأقل.
قبل أن ألج في تلخيص التجربة ودروسها، من المهم توضيح أن أساطيل الحرية إلى غزة، وما سبقها من محاولات بحرية لكسر الحصار، عمليات مركبة معقدة ومكلفة، وتحتاج تحضيراً كثيراً، وتتشابك بها قضايا ذات طابع دولي، من حيث السيادة والقانون الدولي وغيرها. ولهذا، المشكلات والمعوّقات كبيرة. وكان للنهاية الدموية القاسية لأسطول الحرية الأول، بفعل الاعتداء الإجرامي للبحرية الإسرائيلية على سفينة مرمرة تأثيرها الكبير على ما تلاه من محاولات لكسر الحصار. ولعل أصعب قضيّتين تواجه المنظمين هما ميناء الانطلاق الذي يجب أن يسمح بانطلاق السفن باتجاه غزة، وهذا يتطلب موافقة الدولة التي ينطلق منها، ما يعني بالضرورة أن تكون هذه الدولة مؤيدة أهداف الأسطول، وداعمة له، وقادرة على رفض الضغوط الدولية، وخصوصاً من إسرائيل وحلفائها، ورأينا أنه، حتى في ظل الحكومة اليونانية اليسارية والمؤيدة للشعب الفلسطيني، لم يكن الإقلاع سهلا، وتعرضت الحكومة التي تعاني من الأوضاع الاقتصادية الخانقة إلى ضغوط كبيرة، لمنعنا من الإقلاع لملاقاة سفينة المريانا في عرض البحر.
القضية الثانية، ضرورة أن تكون طواقم السفن نفسها من الناشطين الملتزمين بأهداف الأسطول، وأن تكون السفن نفسها تحت تصرفهم، أي ليست مستأجرة من شركات تجارية لها مصالح، خاضعة للقوانين البحرية التجارية. في السنوات الأخيرة، يشرف على تسيير الأساطيل ائتلاف من منظمات دولية في أوروبا وكندا وأميركا، وهذا أيضا يزيد من مصاعب التنفيذ وعقباته.
كان الهدف المعلن الأول لأسطول الحرية كسر الحصار والوصول إلى غزة، وهذا لم يحصل، فهل هذا يعني أن الأسطول فشل؟ على الرغم من العقبات السياسية واللوجيستية الكبيرة التي واجهت المنظمين، فإن الأسطول، وإن لم ينجح في اختراق الحصار، فقد حقق إنجازات عديدة مهمة، بل واستراتيجية، يمكن استثمارها في المستقبل:
أولاً، إعادة موضوع حصار غزة إلى جدول الأعمال العالمي والمنطقي مدة أسبوع على الأقل، في وقت غاب فيه الاهتمام العالمي بقضية فلسطين عموماً، والوضع في غزة حصريا، في خضم الأحداث المأساوية التي تلم بوطننا العربي، وكذلك الانشغال العالمي في الملف النووي الإيراني والمفاوضات الجارية للوصول إلى اتفاق نهائي بشأنه. في الواقع، لا يشكل خرق "الحصار" الإعلامي، بحد ذاته، أكثر من ضربة خفيفة لإسرائيل، المستفيدة الأكبر من الأوضاع المنطقية، وستحاول حكومة نتنياهو استيعابها وإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها. وهذا يشكل تحدياً كبيراً للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، وبكل فصائله ومؤسساته، للعمل على إبقاء حصار غزة، وكل الموضوع الفلسطيني، في الوجدان العالمي، إذ إنّها ليست مهمة ناشطي الائتلاف الدولي لفك الحصار وحدهم.
ثانياً، نجح الأسطول الثالث في هزيمة الرواية الإسرائيلية، والتي بزعمها، أن أساطيل الحرية إرهابية بحد ذاتها، أو داعمة للإرهاب، تسيّرها حركة حماس وحلفاؤها. وتستخدم إسرائيل موضوع الأسطول الأول وسفينة مرمرة التي اعتدت عليها البحرية الإسرائيلية بالحديد والنار، متسببة بقتل تسعة ناشطين أتراك، دليلاً على ذلك. فها هي السفينة، المريانا، بحمولتها المتواضعة وناشطيها السلميين، خير دليل على نفي المزاعم الإسرائيلية. وعليه، ترسخ نهائيا أن أساطيل الحرية عمل سياسي دولي قانوني وشرعي لفكّ الحصار، وأنّ المحرك الرئيسي الأساسي له الرفض الأخلاقي والإنساني لمحاصرة 1.8 مليون فلسطيني في سجن واحد كبير. وسيكون لهذا النجاح أثر كبير في تكثيف الأساطيل المقبلة وإنجاحها.
ثالثاً، كشف الأسطول نقطة ضعف كبيرة وحساسة لإسرائيل، وعن هشاشة وضعها الدولي، ودخولها ذهنيا ونفسيا إلى وضع دفاع، وكأنّ أساطيل حربية جبارة في طريقها إلى شواطئها. فقد مسكت سفينة صيادين صغيرة مثل المريانا إسرائيل من "يدها التي توجعها". وجاء صراخها وردودها العصبية والمتشنجة "على قد الوجع". فعلى الرغم من التحسن الواضح في ظروف إسرائيل الاستراتيجية، على المستوى الجيو-سياسي، وعلى الرغم من الظروف الدولية، وخصوصاً المنطقية المواتية لإسرائيل، فقد استطاع أسطول صغير، مع بضعة عشرات من الناشطين الأوروبيين، وضع إسرائيل في حالة دفاع عن النفس وفي ضيق. وبالإضافة إلى توريطها بمشكلة دبلوماسية مع السويد، ناهيك عن تعرض قادتها العسكريين، بعد اعتراض السفينة، لمساءلة قانونية في الخارج.
رابعاً، كشفت سفينة الصيد الصغيرة المريانا، وعلى متنها الثلة القليلة من الناشطين، عقدة الخوف الإسرائيلي إلى درجة الهوس، حيث اعترضها أسطول كامل من 13 قطعة بحرية (ما عددته بالعين المجردة)، ناهيك عما هو تحت الماء وفي الجو. من الممكن ألا نضع هذا الكشف في باب الإنجازات لأسطول الحرية، لكنه بالتأكيد مهم من باب التشخيص والاستفادة من المعطيات الموجودة.
خامساً، أثبت الأسطول الموقع الأخلاقي العالي الذي لا تزال تتمتع به القضية الفلسطينية، والتأييد الدولي لها، ورفض استمرار الاحتلال والحصار، وسلب الشعب الفلسطيني حريته وحقوقه المشروعة. يثير الإصرار والإرادة والالتزام اللامحدود الذي يتمتع به الناشطون والمنظمون الدوليون الإعجاب، حيث يشكّل هذا كنزا استراتيجياً، يجب أن نحسن استخدامه في الساحة الدولية، من أجل مقاطعة إسرائيل ومعاقبتها على ما تقترفه من جرائم في مواصلة حصارها واحتلالها وعدوانها.
أخيرا، هناك الكثير مما يمكن عمله لتحسين عملية تسيير أساطيل الحرية وتثميرها، هذه مهمة الشركاء الذين يتفانون في سبيل ذلك بإمكاناتهم الضئيلة. يبقى من واجبنا أن نتعاون معهم بأن نسدي المشورة، وأن نكون شركاء في التخطيط والتنفيذ، وليس فقط في الإبحار. هكذا، على الأقل في الظروف الراهنة، نبقي غزة في مركز الاهتمام العالمي والرأي الإعلامي الدولي، سعياً إلى فكّ الحصار عن غزّة، على الأقل.