نتنياهو لعنة إسرائيل الثمانين

27 نوفمبر 2023
+ الخط -

صوتت الحكومة الإسرائيلية، فجر 22 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، لصالح الاتفاق الذي يضمن إطلاق سراح محتجزين في قطاع غزّة. وأقرّت اتفاقاً يقضي بإطلاق حركة حماس 50 رهينة تحتجزهم في القطاع، مقابل إطلاق إسرائيل سراح أسرى فلسطينيين وإرساء هدنة مؤقتة. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلين بنيامين نتنياهو، مساء 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أن "الحكومة الإسرائيلية تواجه قرارًا صعبًا الليلة، لكنه القرار الصحيح". وأوضح في جلسة الحكومة أن "اتفاق إطلاق سراح المخطوفين يتضمّن بندًا يزور بموجبه الصليب الأحمر المختطفين الذين لم يُطلق سراحهم وتزويد المحتاجين بالأدوية".
اعترف نتنياهو في بيانه أن القرار "صعب"، وهذا جيّد، لأن اعترافه هذا حمل ضمنيًا أن هناك فشلًا في مكانٍ ما في عمليته العسكرية المستمرة منذ 7 أكتوبر، والتي حملت عناوين فضفاضة كبرى، يتقدّمها "اقتلاع "حركة حماس". ولكن بعد 50 يومًا على بدئها، يجد نتنياهو نفسه اليوم يفاوض الحركة على إطلاق الرهائن، لا بل يرضخ لشروطهم تحت ضغط الميدان من جهة، والشارع الإسرائيلي من جهة ثانية لإتمام العملية بنجاح. 
يُنهي نتنياهو بيانه حول القرار بالقول: "لكنه قرار صحيح"، وهنا الإشكالية، إذ كيف قيّم نتنياهو قرار حكومته بأنه صحيح وسط جوّ من تعليقاتٍ تعتبر أن الاتفاق هو بداية لهزيمة إسرائيل في الميدان. وهناك من ذهب أبعد في قراءته، في مقدّمتهم الناطق الرسمي لحركة حماس أبو عبيدة، معتبرًا أنها بداية العدّ العكسي لزوال إسرائيل، معتمدًا على مخاوفها من "عقدة الثمانين"، إذ شارفت إسرائيل على بلوغ الثمانين عامًا من وجودها في أرض فلسطين، فأين "الصح" في ذلك؟
من يراقب حركية الفلسطينيين في قطاع غزّة، وحركية الآلة العسكرية، لا يعتبر أنه قرار صحيح بالقبول مرغمًا لقرار "حماس"، فهذا اعتراف واضح بأن "الجيش الذي لا يُهزم" هو أوهن من "بيت العنكبوت"، وأن الغرب، رغم دعمه الدبلوماسي والمادي والعسكري، غير قادر على إعطاء إسرائيل بارقة أملٍ في تحقيق إنجاز ما تستطيع أن تعلن فيه النصر، فهذه الصفقة لا تعدّ نصرًا لنتنياهو، لأنها لم تشمل كل المحتجزين لدى "حماس" كما كان يصرّح منذ بدء الهجوم على القطاع، فضلًا عن أنها تضمّنت إدخال الفيول والمواد الغذائية والمساعدات الطبّية على غير إرادته.

تتعمّق "عقدة الثمانين" عامًا لدى مسؤولي ومحلّلي الكيان الإسرائيلي، وسط أكبر أزمة داخلية تضعه على حافة الصدام الدموي بين مكوناته المتناحرة

قد يكون القرار صحيحًا عند أهالي المحتجزين الذين يطالبون ليس فقط بإطلاق أسراهم، بل ايضا بإقالة حكومة نتنياهو، التي لم تجلب لبلادهم إلا إدانات ومقاطعات دولية. كما أنها، بطريقة غير مباشرة، أعادت إحياء القضية الفلسطينية لدى الرأي العام العربي والعالمي. فالتظاهرات والاحتشادات المؤيدة لفلسطين، ولِحقّ الفلسطينيين في الحياة وفي أرضهم، دفعت الحكومات، حتى الغربية منها، إلى طرح مشروع سلام عادل يقوم على أساس الدولتين.
فشِل نتنياهو في الجولة الأولى، هذا ما سيرتدّ ليس فقط على مستقبله السياسي، إذ باتت أبواب سجن تل أبيب تستعدّ لاستقباله، لكن الفشل يعني بدء توسيع الانقسامات في الداخل الإسرائيلي، الأمر الذي سيهدّد بحروبٍ أهليةٍ داخليةٍ قد تقضي على وجودية الدولة الإسرائيلية في عقدها الثمانين.
في العام الماضي، أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدًا في ذلك بـ"التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تعمّرلليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين. وفي مقال له في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، قال: "على مرّ التاريخ اليهودي، لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 عامًا، إلا في فترتي الملك داود والحشمونائيم، وكلتاهما كانتا بداية تفكّكها في العقد الثامن".
تتعمّق "عقدة الثمانين" عامًا لدى مسؤولي الكيان الإسرائيلي ومحلّليه، وسط أكبر أزمة داخلية تضعه على حافة الصدام الدموي بين مكوّناته المتناحرة، ما لا يمكّنه من أن يستمر في ظلّ كل هذه التناقضات والمشكلات. إذ يتسّع الشرخ الداخلي منذ أواخر العام 2022 مع وصول اليمين المتطرّف إلى سدّة الحكم والمخطّطات التي يحملها لإحداث انقلاباتٍ داخل "المؤسّسات" المختلفة، وذلك بالإضافة إلى تراجع الشعور بالانتماء والثقة لدى الجيل الإسرائيلي الجديد.

ما فعلته حكومة نتنياهو بشأن إجراء التعديلات القضائية لم يكن أزمة عابرة، بل أزمة كيانيّة ترتبط بمصير مستقبل البلاد

في الأزمة الداخلية الحالية، فإن سياسة نتنياهو، وهو صاحب أطول فترة في منصب رئاسة مجلس الوزراء، سابقًا (12 عامًا)ن ثم عاد بعد انتخابات 2022، ساعدت على صعود الجماعات والأحزاب الدينية المتطرّفة التي تريد صبغ الكيان بالأفكار الدينية، وذلك مقابل تراجع الأحزاب ذات التوجهات العلمانية التي ترى في هذا الصعود تهديدًا لهوية الكيان الإسرائيلي ومؤسّساته والديمقراطية المزعومة، ما يُحدِث صراعًا أيديولوجيًا، وبالتالي ينذر ببداية التفكّك والانهيار.
دعونا نعرف أنّه مهما كانت النتائج التي سيعكسها الاتفاق والهدنة، لم يشعر الكيان الإسرائيلي بخطر الوجود الجديّ كما هو عليه اليوم. وما فعلته حكومة نتنياهو بشأن إجراء التعديلات القضائية لم يكن أزمة عابرة، بل أزمة كيانية ترتبط بمصير مستقبل البلاد. لهذا، حاول الهروب باتجاه إيجاد ساحات حرب جديدة، لربما يخفّف ذلك من الاحتقان الداخلي، إلا أنّه صُدم بمحور ينتظر تحديد ساعة الصفر التي بدأت في 7 أكتوبر مع عملية طوفان الأقصى. 
لم تمرّ إسرائيل كدولة، رغم تاريخها الطويل من الحروب مع العرب والفلسطينيين، في أزمة ثقة بين الإسرائيليين والقيادة العسكرية. ولم تشهد حركات هجرةٍ عكسيةٍ إلى الخارج، كما أن مستوطناتها في الجنوب أو الشمال لم تشهد إخلاءاتٍ، بهذا الحجم، ولوقت لم يعرف بعد تاريخ العودة إلى هذه المناطق. جميعها مؤشّرات لها دلالات على أنّ ما جناه نتنياهو في حكمه الطويل في إسرائيل قد يدفعه ثمن زوال هذه الدولة وفي "عقدها الثمانين".