مهنة القراءة
"ألا يوجد في عقلية الناس، وأولئك الذين لا يقرأون، على وجه الخصوص، معتقدٌ بكون الكتاب غرضا مقدّسا؟ فالكتاب لا يُرمى، والكتاب لا يُحرق، والكتاب لا يُتلف، بل يُعتنى به، يوضَّب، يصنَّف، ويفاخر به". هذا ما يقوله الصحفي ومقدّم البرامج الفرنسيّ، برنار بيفو، "القارئ العام" كما يسمّيه محاورُه، في الكتاب الذي يحمل عنوان "مهنة القراءة" الصادر عام 1990 عن دار غاليمار الفرنسية، والمترجَم أخيرا إلى العربية (منشورات تكوين، الكويت). والكتاب مراسلات تبادلها المثقّف المعروف والناشر ومؤسّس مجلة "ديباه" (سجال، غاليمار)، بيار نورا، مع بيفو، الصحفي والكاتب ومقدّم البرنامج الأدبي الأشهر في التلفزيون الفرنسي، "أبوستروف" الذي بدأ عام 1975 وتوقف عام 1990، بعد أن عرض خمسة آلاف كتاب، في 784 حلقة، بهدف تشجيع "العدد الأكبر من الناس على القراءة".
ولمنح القارئ فكرة عن أهمية البرنامج الذي كان يُعرض مساء كل يوم جمعة، ويدوم ساعة يستضيف خلالها أربعة أو خمسة مدعوين يتناقشون حول موضوعة معينة، مستقطبا فعليا ملايين من المشاهدين، تجدر الإشارة إلى بعض الأسماء التي استقبلها، من أمثال ألكسندر سولجينستين، كلود ليفي ستروس، بيار بورديو، نورمان ميللر، فرانسواز دولتو، مرغريت يورسونار، مرغريت دوراس، أمبيرتو إيكو، ميلان كونديرا، فلاديمير نابوكوف، سوزان سونتاغ، ويليام ستايرون، توم وولف، لوكليزيو، بوكوفسكي.. إلخ، ناهيك عن عدد من كبار الفنانين والسياسيين، مثل جين فوندا، رومان بولانسكي، فرنسوا تروفو، جان لوك غودار، الدالاي لاما... كل هذا للقول إن الرجل كان من كبار المؤثّرين على الثقافة الفرنسية وعلى سوق الكتاب في فرنسا، إلى حدّ أدّى إلى نشوء خلاف بينه وبين ريجيس دوبريه، وكان الأخير حينها مستشارا للرئيس الفرنسي ميتران، وقد اعتبر أن الثقافة الفرنسية باتت تحت سيطرة رجل واحد ورأي واحد.
ومع التقدّم في قراءة "مهنة القراءة"، سوف يتكشّف للقارئ، شيئا فشيئا، مسعى بيفو إلى دمقرطة الثقافة، واعتبار ذلك مصدر حيويةٍ وطاقةٍ تهيمنان على برنامجه وتمنحانه طابعه المميز. والكتاب في أقسامه الثلاثة، وبالتحديد في "روحية أبوستروف"، يشرح كيفية عمل مقدّمه على ألا يكتفي المشاهِد بإصدار حكمٍ على الكتاب، بل على رغبته بأن يقتنيه ويقرأه. "لم تخطر لي أبدا فكرة التحقّق مما إذا كان الكاتب الذي سأستضيفه هو "زبون جيد أو سيئ" لبرنامجي، لأن هذا معناه أن الكتاب أقلّ أهمية من كاتبه، وأن حسن المظهر أو البلاغة، هما معياران أكثر أهمية من ميزات الأدب". هذا وينتقد "بيفو بشدة المُشاهد الحالي الذي يُمسك بآلة التحكّم عن بعد، متنقلا بسرعة بين مختلف القنوات، ممارسا "الزابينغ"، ويرى أنه بسبب رغبته في أن يكون في كل الأمكنة، ينتهي إلى لا مكان. "فما يراه ليس برنامجا متكاملا، وإنما أجزاء متلاحقة. هو لم يعد يشاهد، بل يتقصّى، وما عاد يستقرّ، بل يقفز (...) إن ثمن وجود المُشاهد الجوّال وانتشاره هو ثقافة مفتّتة ومجتزأة، بحيث لا ينكشف العالم أمامه إلا على شكل رسم منقّط. فكل مساء، يفبرك المُشاهد الجوّال مجموعة بازل لن يُجيد أبدا إعادة تركيبها... أجل، التنقل السريع بين الأقنية يفبرك مختالين فاقدي الصبر". في الجزء الثالث والأخير من الكتاب، يقع القارئ على فهرس رائع لكتّاب مختارين، للكلمات المهمة في مهنة القراءة أو بالنسبة إلى بيفو، إضافة إلى قائمة تضم مائة كتاب أُطلقت بفضل برنامجه.
يبقى أن نقول إن بيفو، وهو مؤسّس ورئيس تحرير مجلة لير ("قراءة") الأدبية الشهيرة، البالغ 85 عاما، ذوّاقة الكتب والنبيذ والكلمات والطعام الجيد، قد أحال نفسه أخيرا إلى التقاعد، بعد أن كان عضوا مؤثرا ثم رئيسا للجنة جائزة غونكور الفرنسية، ما بين عامي 2014-2019.
لماذا؟ لكي يتفرّغ للقراءة طبعا.