من ينفث في نيران الطائفية في مصر؟
حفلت الآونة الأخيرة في مصر بعدّة أحداث طائفية، وقد تزامنت في وقت واحد بصورة ملفتة، فكانت الأولى حادثة مقتل كاهن كنيسة السيدة العذراء في الإسكندرية، القمص أرسانيوس، وتبعها بأيام نشر فتوى على صفحات صحيفة "المصري اليوم"، تسأل عن حكم بيع الطعام في نهار رمضان لـ"الكافر"، ثم حديث أسرة مسيحية عن رفض مطعم، للأكلات الشعبية في مصر، تقديم وجبة لهم قبل الإفطار، وأخيرا حادثة إسلام السيدة مريم وهيب، ثم عودتها إلى أسرتها بعد ذلك، ولهذه القصّة تحديدا تفصيل. .. كانت السيدة مريم، وفقا لرواية أسرتها، قد خرجت مع طفلتها الرضيعة، وتغيّبت عن المنزل، وبعد مناشداتٍ للبحث عنها خرجت، في مقطع فيديو، تُعلن فيه إسلامها، حاملة في يدها شهادة من الأزهر الشريف، فنفَى الأهل صحة حديثها، وأعلنوا أنها مُجبرَة. وتبِع هذا المقطع غضبٌ في أوساط مسيحية مصرية، وتحدث البابا تواضروس بغضبٍ عن حالات اختفاء مسيحيات في مصر، لتعود بعدها مريم وهيب إلى أسرتها، وفقا لموقع "الأقباط متّحدون"، من دون توثيق لعودتها أو إعلانها أن الفيديو المنتشر لها كان تحت ضغوط، وأنها لم تُسلِم.
هذه الحالة الضبابية متكرّرة في حوادث إعلان سيدات إسلامهنّ. وعلى الرغم من توثيقهنّ إشهار الإسلام في الأزهر الشريف، فإن أوساطا مسيحية تشيع أنهنّ نسوة جرى اختطافهن، ثم إجبارهن على تغيير دينهن، من دون مراعاة أن عمليات إشهار الإسلام تجري بحضور شهودٍ يعرفون المنتقلة إلى الإسلام، وتُسأل بحضور مشايخ أزاهرة من مجمع البحوث الإسلامية، ثم يجري توثيق آخر في وزارة العدل المصرية. الحاصل أن الانتقال إلى الإسلام تحدُث معه ضجّة إعلامية شديدة. وبعد إعادة الأمن المصري السيدة (أو الفتاة) إلى بيتها يحدث اختفاء لحضورها في محيطها، ويُشاع أن بعضهن احتُجِزن في كنائس، الأمر الذي يثير حفيظة مسلمين في المقابل؛ بسبب ضبابية أوضاع السيدات بعد عودتهنّ.
لا يمانع النظام السياسي أبداً من إشعال التوترات الطائفية إما بمواقف يومية، أو بكوارث وطنية، لأجل غاية سياسية شديدة الدناءة
طوال سنوات حكم عبد الفتاح السيسي، جرى في مصر تسليط الضوء على وقائع عنف ديني بالتزامن مع وجود صراع مسلح مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو تنظيمات مسلّحة أخرى. وعلى الرغم من استمرار حوادث العنف في سيناء، فإن الإعلام المصري يتجاهلها بصورة كبيرة، إلا في أوقاتٍ يجري انتقاؤها، وأيضا لم نعد نشهد عنفا دينيا، أو على الأقل لم نعد نسمع به، والإسرار والإعلان إذا اشتركا في مسألة واحدة، فلا بد من تثوير الأسئلة عن دافع الإسرار تارّة، والإعلان تارّة أخرى.
يحاول نظام السيسي أن يبدو بصورة المحافظ على الاستقرار في مصر، إذَا كانت رسالته إلى الخارج ترتبط بأنه المُنقذ والمحافظ على الأوضاع في مصر، وإذا تزايدت الضغوط عليه، فينتقل سلوكه إلى السماح بتسليط الضوء على عنفٍ محدودٍ هنا أو هناك، لتصبح الرسالة: إذا لم أبقَ حاكما فالعنف سيسود، هذا على صعيد العنف بشكل عام.
على صعيد التوترات الدينية والطائفية، فإن عبد الفتاح السيسي يعمد إلى توجيه رسالتين؛ إحداهما داخلية، والأخرى خارجية؛ فالداخلية تهدف إلى إبقاء المسيحيين في حالة توتر وهلع دائميْن من وجود إسلاميين في الحياة العامة، فضلا عن وجودهم في السلطة، والخارجية موجَّهة إلى الغرب ليؤكد أنه حامي الأقلية المسيحية في مصر، والرسالتان تنجحان باستمرار، أو على الأقل تنجح الرسائل الداخلية في اجتذاب الكتلة المسيحية نحو توجّه النظام السياسي، وخَنْدَقَتِه في المعسكر نفسه، وهو ما شهدناه في كل استحقاق انتخابي منذ ثورة يناير 2011، وأصبح دعم المسار السياسي المبني على الانقلاب العسكري في 2013 مطلقا وأكثر وضوحا.
النظام الأمني الذي توجَّه إليه أصابع اتهام متعدّدة في واحدةٍ من أبشع جرائم العنف في مصر، لا يزال مسيطرا على الأجهزة الأمنية والعسكرية
الغريب أن الخوف من الإسلاميين من جهة، وتقديم النظام السياسي نفسه حاميا للمسيحيين من جهة أخرى، يلقيان رواجا في الأوساط المسيحية الشعبية، على الرغم من أن تفجيرات كنيسة القدّيسين في الإسكندرية مطلع يناير/ كانون الثاني 2011، توجهت أصابع الاتهام فيها إلى وزير الداخلية المصري الأسبق حبيب العادلي، واختصم محامي الكنيسة، وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم عام 2015، لعدم إرسال وزارة الداخلية تحرّياتها حول الحادثة إلى المحكمة، رغم تكرار طلب المحكمة التحرّيات.
وإذَا عُدنا إلى عقود سابقة، فقد كانت حوادث العنف الطائفي منتشرة في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وقد سمعتُ من القيادي السابق في "الإخوان المسلمين" عبد المنعم أبو الفتوح، فرّج الله عنه، أن حوادث عديدة كانوا بأنفسهم يقدّمون بلاغات فيها، لكن الشرطة لم تكن تكتب مجرّد محضر، الأمر الذي شجّع على تصاعد العنف الطائفي في تلك الفترة. ويبدو أن نظام أنور السادات الذي بَذَرَ تلك البذرة أراد أن يؤدّب بابا الكنيسة الراحل شنودة، لخلافات بينهما، وقد كان البابا شنودة أول من جعل الأقباط جماعةً ذات تمايز يعلو فيها شعور الجماعة على شعور المواطنة، وزرعَ الأفكار التي تقابل مفهوم "العزلة الشعورية" لدى بعض الإسلاميين، وصنعَ جماعة مغلقة، تنزوي ولا تنخرط في المجتمع إلا بتوجهات قيادتها الكنسيِّة، وساعد سلوك عموم الإسلاميين الساذج في إنجاح هذا المسار التنظيمي للكنيسة المصرية، لتصبح مؤسّسة تنظيمية أكثر من كونها رُوحيَّة.
بالطبع، لا يمكن اعتبار العنف ضد المسيحيين مرتبطا بالدولة فقط، فهناك متطرّفون شذَّت أفكارهم عن الدين، وعن الاجتماع الإنساني بوجه عام، لكن الدولة تظل راعيةً مساحات من هذا العنف من دون شك، وطَرفا فيه في أوقات أخرى، وتتسع رعاية الدولة أو تنحسر بحسب الأوضاع السياسية التي تريد توجيه المسار إليها.
من مصلحة الجميع ألا ينفث أحد في نيران الطائفية، ولا غيرها، مما قد يمسّ التماسك الاجتماعي
النظام الأمني الذي توجَّه إليه أصابع اتهام متعدّدة في واحدةٍ من أبشع جرائم العنف في مصر، لا يزال مسيطرا على الأجهزة الأمنية والعسكرية. وعلى الرغم من ذلك، تميل القيادة الكنسية إليه، وتدعو أتباعها إلى ترسيخ سلطته. صحيحٌ أن أوساط الإسلاميين أصبحت أكثر بُعدا عن ثقافة العيش المشترك، لكن آل القتل والدم بينهم لا يمثلون الثقافة العامة، ولا يملكون أيضا وزنا ثقافيا أو فكريا يسمح لهم بتوجيه الملايين من أبناء الحركات الإسلامية السياسية والدعوية نحو العنف، أو عشرات الملايين من المسلمين الطيبين في مصر، بل وخارجها، وهذه مقارنة شديدة الظهور والوضوح. وفي المقابل، لا يمانع النظام السياسي أبدا من إشعال التوترات الطائفية إما بمواقف يومية، أو بكوارث وطنية، لأجل غاية سياسية شديدة الدناءة، ولا مانع لديهم من قِسمة لُحْمَة المجتمع لأجل الغاية نفسها.
ما يقلقنا أن توالي حوادث التوتر الطائفي ناشئ من نظامٍ لا يسمح للإعلام بحرية تداول المعلومات، ولا بد من وجود غاية وراء هذه الصورة، ثم هو نظام له سوابق اتهام في عمليات عنف، إما بالتواطؤ أو بالتخاذل. وكذلك لم يتوقف هذا النظام منذ نجاح الثورة المصرية عام 2011 في إحداث الفُرقة بين المكونات الاجتماعية، ثم تصاعد هذا الانقسام في ظل حكم السيسي، بإحداث قطيعةٍ اجتماعيةٍ حادّة بين أبناء الأسر الواحدة، وذاع خطاب "إحنا شعب وانتو شعب"، وهذا التفتيت المجتمعي بوابة بقاء المستبد، وهو مقبرة تماسك الدولة أمام أي مطمعٍ خارجي. وهذه السوابق تجعل قلقنا يشتدّ من كل ما يمس التماسك الاجتماعي، وجزء هام منه يتعلق بإخماد أي توتر ديني، وليس مقبولا أبدا أن يشعر فردٌ وُلد وترعرع في وطنه أنه منبوذ أو أقل درجة من غيره، ولا يمكن قبول قتل الانتماء الوطني لدى أي فرد، فضلا عن أن يكون لدى جماعة وطنية. ومن مصلحة الجميع ألا ينفث أحدٌ في نيران الطائفية، ولا غيرها، مما قد يمسّ التماسك الاجتماعي.