من الديمقراطية إلى السلطوية في تونس

25 يوليو 2023
+ الخط -

من مفارقات المسار السياسي التونسي أن البلد الذي كان يقدّم نفسه نموذجا للانتقال الديمقراطي الممكن في المنطقة العربية والمجال الأفريقي تحوّل، وبشكل متسارع، إلى نموذج سلطوي لم يكن أكثر المتابعين تشاؤما يتوقع أن تنحدر البلاد إليه.
لم تكن سنوات الانتقال الديمقراطي التونسي مفروشة بالورود، ومن المبالغة الاعتقاد أنها قدّمت حلولا للأزمات الهيكلية المتوارثة في المجالين، السياسي والاجتماعي، ولكنها بالتأكيد كانت وعدا بإمكانية الوصول إلى نموذجٍ للحكم لا يقوم على القمع، ويفسح المجال للتعدّد والتنوّع، وحيث صندوق الاقتراع هو الأداة الوحيدة للوصول إلى كرسي السلطة. والغريب أن هذه الديمقراطية ذاتها هي التي فتحت المجال أمام من سيُنهي مسارها، ويلغي دستورها ويوقف عمل مؤسّساتها بشكل درامي.
محاولة فهم ما جرى يوم 25 يوليو/ تموز 2021، بعيدا عن منطق الإدانة أو التمجيد، هي المدخل الضروري لإعادة بناء السياق الديمقراطي الذي تم إيقافه فجأة، فقد اجتمعت عوامل داخلية وخارجية أفضت، في النهاية، إلى الوضع الحالي. لم تكن غالبية القوى الحزبية والمنظمات الاجتماعية تؤمن فعلا بالديمقراطية، بل وجدت نفسها ضمن سياق عام للحريات، حاولت أن تستفيد منه، لكنها لم تسع قط إلى تعزيزه وضمان استمراريته عبر الدفاع عن القيم الديمقراطية وتحصين مؤسّساتها. وهكذا وجدنا أحزابا سياسية دعت صراحة إلى الانقلاب على الديمقراطية، وكان هذا جزءا من برنامجها السياسي على نحو ما نجده لدى الحزب الدستوري وقوى أخرى تصوّرت أن إيقاف المسار الديمقراطي سيؤدّي إلى تحقيق فائدة حزبية لها، وهو الاعتقاد الخادع الذي هيمن على قادة حزب التيار الديمقراطي الذي كان شريكا في الحكم. وفي المقابل، فشلت قوى حزبية أخرى في دعم الديمقراطية، وانشغلت بالعمل على التعلق بأهداب السلطة من دون أن تفكّر في ترسيخ المسار وتمثل حركة النهضة النموذج الأوضح في هذا السياق.

يبرع الخطاب السلطوي في التنصل من المسؤولية وتحميل الآخرين وزر كل الفشل الحاصل بسبب الأداء السيئ في الحكم

كانت خطوات ترسيخ النظام السلطوي الجديد تتسارع مستفيدةً من محيط دولي وإقليمي لا يؤيد الديمقراطية، ويدفع نحو الحكم الفردي خدمة لمصالحه في المنطقة العربية والجغرافيا الأفريقية، وهكذا جرى إلغاء دستور 2014 وتعطيل المؤسّسات والهيئات الديمقراطية، ثم تدجين الإعلام، والتوجه نحو إضعاف الأحزاب وتحويلها إلى مجرد ديكور سياسي. ورغم الوعود التي قدّمها النظام الجديد، ووجدت من يصدقها في الشارع عن مكافحة الفساد واستعادة هيبة الدولة وتحقيق المطالب الاجتماعية للثورة التي تم تجاهلها سابقا، إلا أن واقع الممارسة يختلف عن الشعارات، فقد وجدت تونس نفسها في أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة، وعجزت السلطة عن الحد منها ولجأت إلى حلول ترقيعية زادت في عمق الأزمة أكثر مما قدّمت حلولا لها.
يبرع الخطاب السلطوي في التنصل من المسؤولية وتحميل الآخرين وزر كل الفشل الحاصل بسبب الأداء السيئ في الحكم. وإذا كان من الصعب تحديد موطن الفشل في ظل الحكم الائتلافي زمن الديمقراطية، فإن من الصعب تصديق ما يدّعيه النظام السلطوي أن كل ما يحصل من أزمات اجتماعية واقتصادية وفشل في الأداء السياسي هو نتيجة مؤامرة دبّرها معارضوه، فالأزمة الاقتصادية المتصاعدة ومشكلات الغلاء والبطالة والعجز عن التعامل مع ملف المهاجرين الأفارقة كشفت عن حدود الحكم السلطوي وقصور خياله السياسي، وعجزه عن إبداع حلول فعلية لمشكلات الدولة، بعيدا عن الدعايات الشعبوية التي تصلح للحملات الانتخابية.

ما يجري في تونس في السنوات الأخيرة تعبير مكثف عن قصور النخب السياسية وفشلها، في تونس والمنطقة العربية عموما

إن مشكلة النظام السلطوي الناشئ في تونس ناتجة من كونه حالة وسيطة بين الديمقراطية والحكم المطلق، أو أنها مرحلة على الطريق من الديمقراطية إلى الاستبداد، ولهذا يظهر المشهد متناقضا بوجود جرأة على التعبير، خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام. وفي المقابل، تحاول السلطة إيقاف هذا الدفق المتواصل من حرية التعبير عبر خيارات أمنية، وفرض مزيد من الرقابة على مواقع التعبير، ونشر حالة من التوجّس والخوف في الشارع، لضمان مزيد من الامتثال والخضوع. وخلافا للأنظمة السلطوية المطلقة ذات الإرث الاستبدادي، حيث يكون نشاط المعارضة هو البحث عن منافذ للتعبير وتوسيع مجال الحريات، فإن دور المعارضة الفعلية في تونس اليوم هو الحفاظ على ما تبقّى من مربّعات الحرية المتوارثة من الزمن الديمقراطي، والبحث عن آفاق للمستقبل في ظل حالة الغموض السياسي التي تلفّ البلاد، وتجعل من الصعب توقع ما سيحصل في الأيام والأشهر المقبلة.
من السهل توزيع صكوك الإدانة على الأطراف المختلفة. ولكن من الصعب فهم جوهر المشكل والسعي إلى حله، وما يجري في تونس في السنوات الأخيرة تعبير مكثف عن قصور النخب السياسية وفشلها، في تونس والمنطقة العربية عموما. وفي ظل الفرص المهدورة التي أضاعتها المجتمعات العربية لإعادة بناء ذاتها واللحاق بركب الشعوب المتقّدمة، لأنها ظلت دوما تعيد اجترار الأخطاء ذاتها، وتفشل في استغلال الوضع التاريخي المناسب لحل أزماتها السياسية والاجتماعية وبناء نهضتها الشاملة، وهو ما ظل يتكرّر دوريا منذ ظهور دول ما بعد الاستقلال.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.