من الحصار الجغرافي إلى الإعلامي
ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها القوة العسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي الطواقم الإعلامية. سبقتها مرات عدة، في السنتين الأخيرتين، من شيرين أبو عاقلة إلى مصوّر وكالة رويترز في لبنان عصام عبد الله وطاقم عمل قناة الجزيرة وطاقم وكالة الأنباء الفرنسية، وصولًا إلى عائلة وائل الدحدوح إلى استشهاد محمد أبو حطب وأسرته. لم تكن المرّة الأولى التي يحاول فيها جيش الاحتلال إسكات أي صوت آخر، واستبعاد أية سردية أخرى تخالف سرديته، أو بأقل الأحوال تكشف عن زيف ادّعاءاته. بل لطالما حاول، والدولة المزعومة التي يندرج من ضمن مؤسّساتها، بل هو مؤسّستها الكيانية، قول كلمته هو فقط وإسقاط، لا بل فرض هذه الرواية وحدها، على حساب مختلف الروايات، على حساب دم الفلسطينيين، وعلى حساب أحلامهم وأشلاء أولادهم، وعلى حساب إيصال الصوت الفلسطيني المحاصر من كل صوب.
وحدها الطواقم الإعلامية التي تمتلك الإصرار على قول الرواية هي التي يضع نصب عينيه استهدافها. وهذا ليس إلا لسبب وحيد، أن العالم يتأثر بالروايات، والرأي العام العالمي يتحرّك من ضمن ما يتلقاه منها في معظم الأحيان، فمن يهيمن على الإعلام، ومن تكون سرديته المتوافق عليها، هو بالتحديد من يسود. من هذا المنطلق، لا يتوانى جيش الاحتلال عن القيام بهذه المجازر، وهذه الإقصاءات المتتالية والمنظمة. هو يريد أن يكون صوته الوحيد في الميدان، وأن تكون معاييره لما هو أخلاقي وغير أخلاقي هي المعايير، وهذا حصرًا ضمن آليات صنع القرار العالمي وآليات تحريك الرأي العام والتأثير به. كيف لا والمجال الإعلامي في معظمه في يد العدو وحلفائه، وشركاتها هي التي تديره بهدف المصلحة المشتركة التي تجمعه بقوى صنع القرار الدولي، التي تستخدم كل ما يمكنها استخدامه كي تدير الصراع على منوالها، وكي تقدّمه للشعوب كما يحلو لها، وإلا فالسلاح والقتل هو الأداة الأنجع؟.
سياسات عدم الانحياز والموضوعية الدولية في مجملها منحازة وغير موضوعية، هي سياسات طرف واحد حين تدعو الحاجة إلى ذلك
بالتوازي مع ذلك، تخرج في الآونة الأخيرة أصواتٌ كثيرة تتحدث عن زيف معايير منصات التواصل الاجتماعي والإعلام البديل، لم تتوان عن فضح الانحياز الدولي نحو العدو، والتي تتحدث وفق معطيات أولية عن حذف ما يقارب 750 ألف منشور يحاول التصويب على جرائم الحرب التي ترتكبها دولة الاحتلال. وقد عملت تلك الأصوات على إظهار هشاشة المنصّات في فتح المجال أمام الناس لقول رأيها بحرية بالحد الأدنى من الالتزام بالشفافية وبالمعايير الإنسانية. عشرات آلاف المرّات، لا بل مئات الآلاف كانت الرواية تجد طريقها إلى نهاياتٍ مأساوية في الكبت وفي القمع، بسبب فاشية مقنّعة تريد أن تسمع صوتها وحده في الميدان، وفي أقنية التواصل بين الشعوب، وفي مقدمها منصة فيسبوك.
مرّة تلو المرة، كانت المنصات والوكالات تعمل على إطاحة كل معايير الشفافية لفتح المجال أمام سيادة معايير "الرجل الأبيض" وانحيازاته إلى ديمقراطية مزعومة تقبع هنا في الشرق الأوسط في ظل الجماعات العربية الطارئة على الحضارة في عرفها. ومرة تلو المرة كنا نتصادم مع جدار عازل، لكنه تكنولوجي هذه المرّة، فالعدو لا يتوانى عن ممارسة سياسة الفصل العنصري، سواء في الواقع الحياتي واليومي بين من يحتلهم والمحيط الخارجي والفضاءات الرحبة، أو على مستوى الفضاء السيبراني وآليات التعبير والتواصل الكوني. ومرة جديدة باتت الشعوب العربية تجد هذا البون الشاسع الذي يفصلها عن تلك القرية الكونية التي كان من المفترض أن تقدم التقنية دروب أمان للاندراج فيها.
إلا أنه، وفي جميع الأحوال، ولكي لا يعاد المشهد، ولكي لا تعاد المأساة، من الضروري القول إن سياسات عدم الانحياز والموضوعية الدولية في مجملها منحازة وغير موضوعية، هي سياسات طرف واحد حين تدعو الحاجة إلى ذلك، وحين يتبادر إلى العالم السائد بمعاييره وجمالياته وأخلاقياته ورواياته أن هناك من يناطحه ويقارعه من داخله. ومرة جديدة نعود لنطرح السؤال: أليس من الطبيعي أن تدير شبكة المصالح كل هذه المنصات وكل هذه الدروب؟ ألم تكن كل آلية ربط العالم غير التقليدي "بالعالم المتقدّم الحر" هي بسبب سد العجز والثغرات عند هذا العالم، وكانت بلادنا مجرد مناجم ولاحقًا أسواقًا عالمية وبدائل تصريف الإنتاج، وتصريف الرواية والسردية والأخلاقيات معها؟.
حان الوقت لكي نعترف أن من يمتلك الأساس هو من يتحكّم بالتفاصيل
من هنا، يمكن النظر إلى استهداف عائلة وائل الدحدوح وقراره باستكمال المواجهة. هو يعلم الأمر جيدًا، ويعلم أن السردية التي يريد أن يسردها، والصوت الذي يريد أن يوصله، هو سردية وصوت الناس الذي هو منهم وهم منه. فقد ارتفع فوق جراحه لهذا السبب وهذه الغاية بالتحديد. هو إنسان له من المشاعر ما يمكن أن يطيح كل نقاط ارتكازه جرّاء استهداف قوات العدو لعائلته بهذا الشكل المقصود، لكنه عرف كيف يطيح بالتمييز الذي يقوم العدو به ساعيًا إلى إيجاد هوة بين وائل والناس، فآثر أن يبقى في موقعه بين الناس ليقول كلمتهم ولينقل أوجاعهم التي هي كلمته وأوجاعه.
لا بد من القول أخيرًا إن الوقت قد حان لكي نقر ونعترف أن من يمتلك الأساس هو من يتحكم بالتفاصيل، ومن يمتلك التقنية هو من يتحكم بنتائجها، إلا فيما ندر. وهذا الاحتمال المتفلّت من المعادلة بات يضيق أيضًا في الفترة الأخيرة. آن الأوان اليوم لكي نعترف بأن من يدرك مساعيه هو من يمتلك الدروب. هذه هي العقلانية التي مازالت مستمرة منذ قرون حتى اليوم. فمن يخطط هو الذي يسعى وراء تحقيق مخططه، ويكرّس كل السبل لهذه الغاية. بات من الضروري القول إن من يمتلك الإعلام الدولي هو من يمتلك الرسالة والصوت والسردية، ولا بد من توسعة المقارعة في هذا المجال تحديدًا، بات من الضروري توسعة الطرق والوسائط والأدوات لكي تعبّر عن القضايا بالسردية التي تعنينا.