من أرطغرل إلى نهضة السلاجقة: الرسالة التركية
تناولت دراسات وأبحاث وكتابات ومقالات عديدة، خلال الأعوام الماضية، صعود ما تسمى القوة الناعمة التركية في العلاقات الخارجية، ولعلّ أغلبها يركّز على شيفرة النجاح التي قدّمها حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى الحكم (قبل أقل من عقدين)، مُحدثاً طفرة نوعية في استراتيجيات عمل الحركات الإسلامية وآلياته في العالم، من خلال النجاح في إعادة هيكلة الطرح الإسلامي بصورة جوهرية.
وللأمانة، لم يكن نجاح الحزب بالشعارات والمقولات النظرية، إذ تمكّن، خلال فترة حكمه، من الانتقال بتركيا نقلة نوعية في مجال الاقتصاد، وتقديم نموذج جديد عن مفاهيم العلاقة بين الإسلام والديمقراطية والعولمة، ولعلّ ذلك يمثّل، وفقاً للدارسين، أحد أبرز مصادر القوة الناعمة التركية في العالم العربي والإسلامي.
من أبرز الكتب التي جاءت على أهمية النموذج التركي كتاب نصر فالي "قوى الثروة الصاعدة"، إذ عدّ الطبقة الوسطى التركية بمثابة إحدى أبرز القوى التي تحمل مفتاحاً للتغيير في المستقبل، من خلال قدرتها على الاندماج في العولمة مع الحفاظ على الهوية الإسلامية. ومن الكتب المهمة التي تناولت مفهوم القوة الناعمة التركية، وأخذتها بالاعتبار، كتاب يحيى السيد عمر "القوة التركية الناعمة: مقومات الصعود في العلاقات الدولية" (2019)، وتناول في أحد فصوله موضوع الدراما، وبحثت فصول أخرى الديبلوماسية التركية والخدمات والاقتصاد والسياحة وغيرها مما اعتبرها معالم رئيسية للقوة الناعمة التركية.
إلاّ أنّ معركة النموذج لا تقف عند حدود السياسة الخارجية التركية، ولا عند الحزب الحاكم أو الشعبية التي يحظى بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في العالم الإسلامي، ولا حتى عند النموذج الاقتصادي والتنموي المفتوح، بل تعدّاه إلى تحولاتٍ تحدُث في العمق المجتمعي والثقافي التركي نفسه، مع إعادة التأكيد على الهوية الإسلامية التركية من خلال الدراما التركية، وربما المساهمة في إحياء الماضي في ثوبٍ معاصر جديد وتوظيف التراث الفكري والثقافي وصوغ معالم الهوية الإسلامية التركية بصورة محترفة في هذه الأعمال الفنيةّ.
لا أشعر أنني أبالغ من خلال تتبّع التأثير الهائل لبعض المسلسلات التركية في أوساط شعبية عربية ومسلمة (وأرجو من مراكز الدراسات أن تقدّم لنا استطلاعاً في هذا الجانب الذي تزداد قيمته وأهميته في الفترة الأخيرة)، مثلما هي حال مسلسل أرطغرل، وهو والد مؤسس الدولة العثمانية، ثم مسلسل عثمان، ومسلسل وادي الذئاب، ولاحقاً مسلسل السلطان عبد الحميد، وأخيراً مسلسل نهضة السلاجقة، الذي يعرض الآن، ويقدّم رسالة سياسية ورمزية في غاية القوة والذكاء.
لا تخرج الرسائل المركّزة في هذه المسلسلات الدرامية عن بث الوعي التاريخي واستعادته بدور الأتراك والعثمانيين والسلاجقة، ثم التأكيد على فكرة المؤامرات الداخلية والخارجية التي يتعرّض لها المسلمون، والارتكاز على التراث الصوفي للدولة العثمانية التي تميّزت بتبنّي التصوف خلال حقب طويلة. كما نلمح، في التأكيد على أهمية شخصية محي الدين ابن عربي في مسلسل أرطغرل، أو شخصيتي الشيخ الحمداني والإمام الغزالي وعلاقته بنظام الملك والسلاجقة في مسلسل نهضة السلاجقة.
مثل هذه الأعمال تحفر، بالتأكيد، عميقاً في الهوية التركية الداخلية، وتعزّز الجوانب الإسلامية فيها، ذات البعد الصوفي، والمسؤولية التركية التاريخية تجاه العالم الإسلامي، كما أنّها (هذه الأعمال) تعزّز من قوة تركيا وحضورها في الخارج، وتسبغ عليه طابعاً رمزياً وثقافياً وروحياً واضحاً.
ليس غريباً أن نجد هذا الإقبال الشديد في العالمين، العربي والإسلامي، على الأعمال الدرامية التركية ذات الطبيعة التاريخية والرمزية التي تحمل رسائل مبطّنة داخلية وخارجية، وتقوم بما قد تعجز عنه جيوش وجحافل وجيوش ومليارات من الأموال التي تضخّ لترويج سياسات الدول لدى العواصم الغربية وفي وسائل الإعلام العربي والغربي.