مناهضة إيران
في التعليق على شعارات الشباب في تظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019 في العراق، تساءل أحد المعلقين السياسيين المقرّبين من إيران ذات مرّة، في برنامج تلفزيوني، عن الأسباب التي غدت معها "الوطنية العراقية" تعني "مناهضة إيران". هو يرى أن في الأمر مبالغة، وتحويل إيران شمّاعةً لكل الأخطاء والمشكلات العراقية التي ساهم في صناعتها السياسيون والنخب العراقية بالدرجة الأساس، مع تدخلات كل دول الجوار العراقي، وليس إيران فحسب.
ليست المناهضة الجديدة لإيران لأسباب "بعثية"، كما يحلو للمقرّبين من إيران أن يردّدوا، وإنما وطنية بحتة. .. كان "البعث"، مثلاً، مناهضاً لإيران، ولكن من منطلق قومي، في خطاب تعبئة ودعاية خلال الحرب العراقية الإيرانية، لم يكن يتورّع عن النزول إلى حضيض العنصرية والصور النمطية المعبأة بالكراهية، وأشهرها هو تعبير "الفرس المجوس"، فهذا أولاً تعبير يعاكس الحقيقة بشكل فجّ، ويوحي وكأن الشعب الإيراني مجوسي الديانة، في غالبيته، وهذا أمر لا يحتاج إلى جهد لدحضه وإبطاله، وثانياً؛ هو تعبير يحمل وصماً لطائفةٍ دينيةٍ صغيرة مسالمة هي "الزرادشتيون"، ويستحضر تعبيراً سلبياً من التراث ضدّهم، هو من مخلّفات الفترة الأولى للدولة العباسية في العراق.
في الحقيقة، كانت السنوات الأولى ما بعد الاحتلال وسقوط نظام صدّام في 2003 فترة اكتشاف لإيران. كان هناك قبلها حاجز كبير صنعه أكثر من عقدين من الحروب والقطيعة بين البلدين الجارين. اندفع كثيرون من كبار السن لزيارة المراقد المقدّسة في إيران. وبسبب فارق العملة بين البلدين، واستقرار المؤسّسات الصحية والخدمية في إيران، فضّل عراقيون كثيرون السفر إلى إيران في الإجازات والعطل الصيفية، وأيضاً للعلاج، بل وحتى ما تسمّى "السياحة العلاجية"، كزرع الشعر والأسنان وعمليات التجميل النسائية وغير ذلك الكثير.
وسرعان ما غدت منتجات الألبان وبعض المواد الغذائية الإيرانية ضيفاً أساسياً على الموائد العراقية. بل غدت إيران الشريك التجاري الأساسي للعراق بالمنافسة مع تركيا. وهذه الأنشطة في حدود كونها أنشطة طبيعية، بل ومرغوبة بين بلدين جارين، يحترم كلٌّ منهما سيادة الآخر، كانت تغطّي على اتهاماتٍ كثيرة تسوقها تقارير عن دعم إيران نشاطات "القاعدة" مثلاً، أو دعمها المليشيات الشيعية المناهضة للدولة العراقية، وتسهيل هروب المطلوبين قضائياً من أولئك السياسيين المقرّبين منها، كما حصل مع محافظ البصرة السابق، ماجد النصراوي.
خلال العقد الأول ما بعد 2003 كانت نخب شيعية كثيرة، من مختلف الخلفيات الفكرية والسياسية، تنظر إلى إيران أنها عمق استراتيجي لشيعة العراق، في مواجهة حالة الخوف والخشية من "عدو خارجي" يمنع تمكّن الشيعة من حكم العراق.
كان هذا كله استثماراً إيرانياً ناعماً في الساحة العراقية سنوات، ولكنه تبخّر فجأة مع حرق القنصليتين الإيرانيتين في البصرة وكربلاء في خريف وشتاء 2019، وهتاف آلاف الشباب في المجتمع الشيعي العراقي؛ إيران برّه برّه. كان أمراً صادماً ربما لأولئك الذين لم يتابعوا التفاصيل الدقيقة، ولكنه مفهوم لمن يرى أن إيران ظلّت مصرّة على أن تنظر إلى الشيعة العراقيين مجرد شيعة، وليسوا مجتمعاً معقّداً، هو نتاج مائة سنة من تفاعلات الوطنية العراقية بكلّ أشكالها، حتى الديكتاتورية والاستبدادية، وأن هذه الوطنية العراقية، المخفقة سياسياً، يمكن أن تهفت ولكنها لا تنطفئ، والأجيال الجديدة التي لم تعش معاناة الصراع مع الأنظمة السابقة وجدت نفسها تنشئ علاقة حرّة وهادئة مع تراث الدولة الوطنية.
والأمر الثاني؛ أن إيران، بدل أن تجعل نفسها، على وفق التوقعات من داخل المجتمع الشيعي العراقي، ظهيراً استراتيجياً لهم، بكل تنويعاتهم وألوانهم، فضّلت أن تكون ظهيراً لفصيل واحد من المجتمع الشيعي، لا يحظى بالأغلبية، ويفرض نفسه بقوّة السلاح والقهر، ويعتاش من الفساد والسرقات ومصادرة الأعمال في القطاع الخاص، وتوهين سلطة الدولة وتركيع مؤسساتها، حتى الأمنية منها.
قد تكون النتيجة فيها مبالغة فعلاً وشيء من الرومانسية، لكنّ كثيرين من الشباب العراقي يندفعون اليوم لإعادة إنتاج هويته الوطنية بمناهضة إيران، للأسباب التي ذكرناها، ولا يمكن تعديل هذا الوضع، إن لم تعدّل إيران ابتداءً من سياساتها في العراق.