الانقسام العراقي الإيراني
انتشر خبر على صفحات مواقع التواصل العراقية قبل أيام عن وصول العراق إلى الاكتفاء الذاتي من بيض المائدة، ولم تتوفّر معلوماتٌ أكثر يمكن معها تحرّي مصداقية هذا الخبر. وبعد بضعة أيام، انتشر خبر آخر يعرب فيه المزارعون المعنيون بإنتاج البيض عن استيائهم لاستمرار استيراد بيض المائدة الإيراني، رغم عدم حاجة العراق إليه.
بغض النظر عن دقّة هذه الأخبار من عدمها، فهي تجري ضمن سياقٍ معروفٍ من سنوات عديدة؛ فالعراق يعتمد، في استيراده مواد أساسية كثيرة على إيران، وهناك تداخل اقتصادي وثيق بين البلدين، لعل أبرزه ملف الطاقة الكهربائية، حيث يستورد العراق الغاز الإيراني لتشغيل محطّات توليد الكهرباء. ولطالما كانت هذه نقطة حسّاسة في التفاوض مع الجانب الأميركي الذي يرغب في تضييق الخناق الاقتصادي على إيران، ويشجّع العراق دائماً على إيجاد بدائل عن الغاز الإيراني.
تحاول الحكومات العراقية المتعاقبة أن توازن الضغط بين الجانبين الأميركي والإيراني، وقد تتحمّس الحكومة، كما كان يحدث في عهد رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، للادّعاء أن العراق صار يلعب دور المفاوض في المنطقة، ولكن هذه الادّعاءات لم تمرّ من دون سخرية العراقيين على مواقع التواصل، فمنهم من قال إن حدود دور العراق في كل المنازعات التي كانت تدور في المنطقة، فضلاً عن التصعيد غير المسبوق الحاصل حالياً، كان أن يقوم بدور "الجايجي"، أي؛ الذي يقدّم الشاي للمتفاوضين.
بعيداً عن السخرية، تحوّل العراق، بحكم الأمر الواقع، خلال السنوات الماضية، وتحديداً ابتداءً من الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الى منطقة أبواب خلفية للتفاوض بين الخصوم والغرماء، ولا سيما أميركا وإيران. ومع ذلك، من الصعب الادّعاء أن العراق تحوّل إلى طرف ثالث مستقل، فهو منطقة صراع وتسويات، يمارس أحياناً دور "الوسادة" لامتصاص الصدمات، وتتعرّض الطبقة السياسية الحاكمة فيه إلى استلاب عميق للصلاحيات، إن كان بفعل الضغوط الأميركية، أو أذرع إيران المؤثرة داخل العراق.
خلال الجدل الدائر منذ أسابيع بشأن دور العراق في الصراع الذي تشعله إسرائيل في المنطقة، وتدفع به الى مديات غير مسبوقة، وهل ينخرط العراق دولةً ومنظماتٍ مسلّحة غير رسمية، في الحرب ضد إسرائيل، أم يقف على الحياد، أم يحاول المساهمة في إطفاء النيران المشتعلة، أشاد معلّقون ومراقبون كثيرون بحالة ضبط النفس التي تمتعت بها الحكومة العراقية والفريق السياسي المؤيد لها.
تحاول الحكومة العراقية، برئاسة محمد شياع السوداني، ولا شكّ، أن تمتثل لمصالح العراق العليا، وتتصرّف وفق المعطيات الواقعية التي تجعل مساحة الحركة والتأثير محدودة، فهي وليدة البرلمان العراقي وقواه السياسية التي تميل أغلبها مع الهوى الإيراني، وهي من الجانب الآخر تسير وفق اتفاقات أمنية واستراتيجية مع الجانب الأميركي. إنه وضع حرج وغير مريح لأي سلطة سياسية تريد فعل الكثير من دون وجود أدوات تساعدها على ذلك.
وعلى الرغم من الموقف الصريح الذي أعلنته رئاسة الوزراء أو بعض مستشاريها أن العراق لن يشترك في الحرب الدائرة، وسيكون ضمن الجهود الداعية إلى إيقاف الحرب، لكنها لا تستطيع أن تتقدّم أكثر في هذا المسار، ولا تستطيع ردع المليشيات المسلّحة المنخرطة فعلياً ضمن المحور الإيراني، وتحاول بصعوبة موازنة الأمور، حتى لا تفلت من يديها.
من جانب آخر، يعكس الانقسام في الساحة العراقية ما بين مواقف رسمية وأخرى تمثلها بعض المليشيات انقساماً في دائرة صنّاع القرار في إيران نفسها، فهناك من المؤثرين النافذين في السلطة الإيرانية من يرغب في أن لا يجرّ العراق إلى النار، وأن يبقى "وسادة" يتكئ عليها الاقتصاد الإيراني، وأبواباً خلفية للتفاوض السرّي مع الأعداء. وعلى الجانب الآخر، هناك من دائرة صناعة القرار الإيراني من يرى أن هذا هو وقت الاستفادة من الاستثمار في الساحة العراقية، فإيران أمام لحظة مصيرية، وإن لم تستفد من مساعدة العراقيين في حربها المعلنة مع إسرائيل فمتى سيكون ذلك؟