الحساب المؤجّل في تظاهرات الناصرية

22 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

فجأةً، وفي غضون الأسبوع الماضي ومن دون سابق إنذار، اشتعلت الأجواء في مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار (370 كيلومتراً جنوب شرقي بغداد)، وخرج مئات من الشباب المحتجِّين إلى ساحة الحبّوبي في مركز المدينة، وهي الساحة التي شهدت اعتصاماتٍ شهيرةً في تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وعُدَّت في وقتها عاصمة الاحتجاجات في العراق.
خلفية الحدث، وكما يجري في أفلام الأكشن والإثارة؛ يصل اللواء نجاح ياسر العابدي ليتسلّم مهامَّ منصبه الجديد مديراً لشرطة محافظة ذي قار. وقبل أن يجلس إلى مكتبه في منصبه الجديد يخرج من الأدراج السفلية مذكّراتِ إلقاء قبض مجمَّدةً منذ خمس سنوات، ثمّ يباشر بتنفيذها، وألقت قوّات الشرطة المحلّية القبض على عشرات من الشباب في يوم، واستمرّت عمليات مداهمة البيوت وإلقاء القبض حتّى اليوم التالي، لتعلن قيادة شرطة ذي قار الخميس الماضي (17 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري) أنّ الحصيلة كانت القبض على أكثر من 500 متَّهم، بعضهم صدرت في حقّهم أوامرُ قضائيةٌ بتهم قطع الشوارع وحرق الإطارات وإثارة أعمال الشغب في تظاهرات أكتوبر (2019).
جابهت الشرطة التظاهرات الجديدة المحتجّة على عمليات المداهمة وإلقاء القبض، وسقط جرحى بين صفوف المتظاهرين، وكذلك من الأجهزة الأمنية، ثمّ سارعت بغداد إلى إرسال قوّات مكافحة الشغب للسيطرة على الأوضاع في الناصرية. جاء اللواء نجاح العابدي بمزاج جديد أكثر عدائيةً بعد عدّة مديرين لشرطة ذي قار، تناوبوا على المنصب خلال السنوات الخمس الماضية، وكان أغلبهم يعرف حساسية الوضع في الناصرية، وطبيعة مذكّرات القبض الكيدية، التي صُمِّمت في وقتها لتصفية الناشطين، فوضعت الأحكام القضائية المُسيَّسة كثيراً من الشباب الذين أشعلوا الإطارات لقطع الشوارع تحت بند المادة (4 إرهاب)، بينما أُطلِق سراح ضبّاط الأمن المسؤولين عن مقتل عشرات من المتظاهرين باستهدافٍ مباشرٍ بالنيران الحيّة، كما هو الحال مع مجزرة جسر الزيتون، أواخرَ نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وسقط فيها أكثر من 80 قتيلاً ومئات من الجرحى، وأُقيل في إثرها مدير خلية الأزمة، الفريق جميل الشمَّري، ثمّ استقال على التوالي؛ محافظ ذي قار عادل الدخيلي، ومدير شرطة ذي قار محمد القريشي. لكن، كلّ الدعاوى القضائية أُسقِطت عن جميل الشمَّري، بل إنّ النظام كافأه بمنصب أعلى.
كانت مذكّرات القبض الكيدية هذه مدارَ نقاشٍ وتفاوضٍ على مدى السنوات الماضية، لأنّها ذات طابع سياسي، ولمّا كان الحلُّ التفاوضي يُؤجَّل في كلّ مرَّة، فقد كان قادة شرطة ذي قار يضعونها في الأدراج السفلية ولا يفتحونها، بانتظار الحلّ التفاوضي. فما الذي حصل مع قائد الشرطة الجديد؟!
لا بأس بالإشارة أولاً إلى الوضع الخاصّ لمدينة الناصرية، فهي تكاد تكون المدينةَ الوحيدة التي أُحرِقت فيها مقارّ الأحزاب السياسية ومقارّ المليشيات خلال تظاهرات أكتوبر (2019)، ولم يُعَدْ فتحها. والمستثنى من هذه الحالة هو مكتب التيّار الصدري.
ويبدو، من خلال أحاديث الكواليس مع ناشطين وشخصيات مؤثّرة في المدينة، أنّ النقطة أعلاه مُحرّك القصّة الجديدة، فالأحزاب المنضوية تحت الإطار التنسيقي الشيعي (الحاكم) تريد إعادةَ فتح مقارّها في المدينة تمهيداً لانتخابات 2025. فحصّة محافظة ذي قار 19 مقعداً في مجلس النوّاب، وهو عدد كبير. ولا تريد هذه الأحزاب خسارة هذه المقاعد لصالح أحزاب منافسة، قد تكون من بين صفوف المتظاهرين والمدنيين، أو تكون من حصّة غريمهم الذي جرى إقصاؤه من السلطة عقب انتخابات 2021؛ التيّار الصدري، الذي يتمتّع بحضور في مدينة الناصرية، ويحافظ على وجوده.
أنباء أخرى من الكواليس تشير إلى محاولة هذه الأحزاب إحراج رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، وإثارة الفوضى لتشويه صورته، بعد أن بدا وكأنّه يبتعد من هذه الأحزاب، ويغدو منافساً محتملاً في الانتخابات القادمة.
يطالب المتظاهرون اليوم بإطلاق سراح من أُلقي القبض عليهم بأوامر مدير الشرطة الجديد نجاح العابدي، وما زالت القضية مفتوحةً على الاحتمالات كلّها.

أحمد سعداوي
أحمد سعداوي
كاتب وروائي عراقي