مصر والصومال .. جفاء الحاضر ودفء الماضي
يلف الغموض والتوتر المشوب بالتصعيد مستقبل العلاقات الدبلوماسية الصومالية المصرية، نتيجة ضبابية موقف مقديشو بشأن ملف سد النهضة المتفاقم، والخلافات الحادثة بين الثلاثي الأفريقي (إثيوبيا ومصر والسودان)؛ حيث أبدى الصومال تحفظه في قرارين لجامعة الدول العربية في موضوع السد، وهو ما أثار، محلياً وعربياً، زوبعة إعلامية، وخصوصا من الإعلام المصري تجاه الصومال، فضلاً عن عشرات من التدوينات والتغريدات المسيئة في مواقع التواصل الاجتماعي، تويتر وغيره، وحمل بعضها رسائل شيطنة ودعوات إلى ترحيل الصوماليين من دول الخليج، بناء على قرارات مقديشو الحيادية أخيرا، وتحفظاتها المتكرّرة في أكثر من قضية عربية، وجديدها اجتماع وزراء الخارجية العرب بشأن ليبيا وسد النهضة.
العلاقات بين مصر والصومال قديمة، وشهدت في الستينيات وما بعدها نوعاً من التبعية السياسية الصومالية لمصر، حيث كان شعارها "الصومال مع مصر" في المحافل الدولية والعربية؛ ومثال ذلك وقوف الصومال إلى جانب القاهرة، إبّان اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وسبق ذلك مشاركة كتيبة مدفعية صومالية في صفوف الجبهة المصرية إبّان حرب 1973، وهو ما أبرز متانة العلاقات بين البلدين، إلى جانب رمزية الدبلوماسي المصري كمال صلاح الدين لدى الساسة في الصومال، الذي اغتاله المستعمر الإيطالي في مقديشو في عام 1957.
السياسات الجديدة تدفع مقديشو الأخيرة إلى الحرص على الاحتفاظ بصداقتها مع إثيوبيا
ولكن تلك العلاقات القوية الممتدة منذ الخمسينيات إلى نهاية الحكم العسكري في الصومال 1991 لم تشهد تطوراً ملموساً في الألفية الجديدة، وتراجع الدور المصري ليستفيق مجدّداً مع بدايات أزمة سد النهضة، وذلك في وضع بات الواقع الصومالي مرتبطاً بشكل أكثر مع السياسة الإثيوبية الإقليمية، بل جزءاً من استراتيجيتها، للنهوض من قاع الفقر عبر الاستفادة من الموانئ الصومالية، إلى جانب شراكات واتفاقيات اقتصادية وأمنية بين البلدين، وهو ما يدفع الصومال أكثر نحو الارتماء في أحضان إثيوبيا، ليصبح دور القاهرة في القرن الأفريقي مجرد دور مكملٍ لقوى إقليمية وعربية، أو أخرى دولية، على حساب الدور المصري الذي كان يُشار إليه بالبنان، نظراً إلى قوة وجوده وتحالفاته في منطقةٍ تحمل بعداً أمنياً مائياً واستراتيجياً لدى مصر.
تختلف مصر التي يقودها الجنرال عبد الفتاح السيسي، شكلاً ومضموناً، عن سابقاتها، وحتى استراتيجياً وسياسياً، فمن حيث تحالفاتها الإقليمية في القرن الأفريقي تبدو هي الحلقة الأضعف، في الحاضر العربي حتى التنسيق مع الخرطوم، حليفها الأقرب والمشارك مع نزاعها في سد النهضة، لا تربطهما مصالح قومية عربية مشتركة، بل النزاعات الحدودية هي شعار المرحلة بين الجارتين، فضلاً عن تدنّي مستوى تركيزهما إلى بحثٍ مشترك عن حقوقهما المائية التي تقضمها إثيوبيا بملء أكفها، إلى جانب عدم توفر دبلوماسية مصرية قوية في الصومال، منذ عام 2006.
وإذا كان موقع الصومال الحيوي والاستراتيجي كان، سابقاً، واحدا من أهم دوائر الحركة في السياسة الخارجية المصرية تجاه دول القرن الأفريقي، لما يحمله من بعديْن، أفريقي وعربي، فضلاً عن تحكّمه بمضيق باب المندب الذي له علاقة مباشرة بحركة السفن المؤدية إلى قناة السويس، إلا أن كل هذا الإهتمام المصري السابق لم يعد له وجود، بل أغضبت تحرّكات مصرية الحكومة الصومالية، وخصوصا بعد زيارة وفد من الخارجية المصرية "إدارة أرض الصومال"، وولاية بونتلاند، واستقبال وفود صومالية من تلك المناطق الصومالية في القاهرة، من دون تنسيق مسبق مع الحكومة، وهو ما أدى إلغاء بروتوكول التعاون التعليمي بين الصومال ومصر أخيرا، لينهي بذلك جزءاً من وجود مصري ثقافي في مقديشو.
تختلف مصر التي يقودها الجنرال عبد الفتاح السيسي، شكلاً ومضموناً، عن سابقاتها
ما يفاقم الوضع السياسي والدبلوماسي المربك حالياً بين الدولتين مواقف الصومال المحبطة والمتكرّرة تجاه مصر التي طالما تغنّت بعروبتها وثقافتها، لمد جسورها وتشبيك علاقاتها مع مقديشو، حيث أحجمت الدبلوماسية الصومالية مرتين عن تأييد قرار جامعة الدول العربية، مناصرة لمصر ومناكفة لإثيوبيا التي تربطها بها حالياً علاقات قوية ومتينة، وتتطلع كل من مقديشو وأديس أبابا إلى تبديد مآسي الحرب والصورة الرمادية الباقية في أذهان شعوبٍ كثيرة في المنطقة، والكفّ عن التدخلات، ولا سيما الدور الإثيوبي السلبي الضاغط في المسألة الصومالية منذ التسعينيات، فالسياسات الجديدة بين القاهرة ومقديشو تدفع الأخيرة إلى الحرص على الاحتفاظ بصداقتها مع إثيوبيا، ومن دون خسارة حليف جديد في القرن الأفريقي أٌقرب من حكومة عبد الفتاح السيسي، وعدم الانجرار وراء وعودٍ تعقبها نياتٌ لا تسمن ولا تغني من جوع.
ليس الصومال وحده من يعلن حياده في قضية سد النهضة الإثيوبي، فجيبوتي التي تربطها بمصر علاقات وطيدة تحفظت هي الأخرى على قرار جامعة الدول العربية، وذلك حفاظاً على مصالحها الاقتصادية مع إثيوبيا، إذ تعتمد تجارة الأخيرة على الموانئ الجيبوتية، تصديراً وتوريداً، وهو ما يضع مصر أمام ميزان المصالح الجيبوتية أمام إثيوبيا التي تعد شريكاً أساسياً مع كل من الصومال وجيبوتي. وبذلك تتقزم أحلام القاهرة أمام عملاق إثيوبي تتمدّد سياساته في المنطقة، عبر انفتاح سياسي مع أسمرة ومقديشو تارة، وعلاقات اقتصادية مستقبلية بين دول القرن الأفريقي تارّة أخرى.
الجغرافيا السياسية في القرن الأفريقي لا تحتمل الفراغ أكثر من ثلاثة عقود
ومن المفارقات في مواقف الصومال عدم وجود خط سياسي واحد لمواجهة تداعيات أزمة سد النهضة، خصوصا ما يصدر من قرارات مؤيدة لمصر عن جامعة الدول العربية، فالتناقض يهيمن على سياسة الصومال تجاه هذه القضية؛ ففيما صرّح وزير الخارجية الصومالي، أحمد عيسى عوض، إن بلادة تتبنى موقف الحياد في الأزمة، وتسعى إلى التوسط بين شقيقها العربي وجارتها إثيوبيا، فاجأ السفير الصومالي لدى أديس أبابا، عبد الحكيم عمي، الإعلام المحلي، بتصريح مثير للجدل، إن الصومال يقف إلى جانب إثيوبيا في قضية السد، هو ما يعكس تناقضاً وازدواجية في توجهات السياسية الصومالية تجاه أزمة إقليمية حادّة.
ويمكن القول إن موقع الصومال الإستراتيجي جاذب لاهتمامات دولية وإقليمية وعربية، قديماً وحديثاً، فتركيا تعتبر الشريك الأكبر والداعم التنموي الرئيس بالنسبة للصومال، فإذا أرادت مصر أن تعيد وجودها في القرن الأفريقي، فإن بوابة الصومال مفتوحة للشقيق المصري عبر سياسات طموحة تعيد دفء العلاقات بين الجانبين إلى سابق عهدها، أما ما عداها من سياسات جانبية، والبكاء على أطلال التاريخ والصداقات العاطفية، فكلها تبعد الصومال عن حضن مصر مع مرور السنوات، وتضعه في مصافّ أحلاف وتكتلات أخرى في منطقةٍ مزدحمة بالكبار، بحكم أن الجغرافية السياسية في القرن الأفريقي لا تحتمل الفراغ أكثر من ثلاثة عقود.