"مصر.. حملة لسحق حرية الفن"

28 اغسطس 2018
+ الخط -
هل تزيّد الكاتب الإسرائيلي، تسفي برئيل، لمّا كتب، في صحيفة هآرتس (20/8/2018)، إن للفنانين المصريين أن يتذكّروا باشتياق عهد حسني مبارك، و"الذي، على الرغم من قوانين الرقابة الشديدة إبّانه، كان مجال حرية التعبير الفني فيه أكبر بكثيرٍ مما في عهد عبد الفتاح السيسي". تنشغل مقالته بقضيتيّن، إحداهما الحكم بالسجن شهرين، مع وقف التنفيذ، على المخرج، أحمد الجارحي، والكاتب، وليد عاطف، بسبب عرض مسرحيتهما "قصة سليمان خاطر"، في نادٍ في القاهرة. وتلتفت المقالة إلى ارتفاع منسوب الرّقابة النشطة جدا تحت حكم السيسي، وتأتي على تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش، والذي صدر الأسبوع الماضي، وحمل عنوانا لافتا "مصر.. حملة لسحق حرية الفن". ويجعلك هذا التقرير المهم ترى أن الكاتب الإسرائيلي لم يفتئت، في شيءٍ على السيسي، بل إنه لم ينتشل الزير من البير، فالبيّن أمام أنظار الجميع أن البؤس الحادث في مستوى الحريات العامة في مصر، منذ انقلاب الجيش في يوليو/ تموز 2013، لم يشهد مثلَه زمن مبارك، وأن همّة السلطات المصرية في التّربص بفنانين ومثقفين وصحافيين وناشطين، في الدولة البوليسية الناهضة برئاسة السيسي، لم يألفها هؤلاء في دولة مبارك.
يستعرض تقرير المنظمة الحقوقية وقائع احتجاز السلطات المصرية أكثر من 12 فنانا، وكذلك الأوامر والمراسيم الجديدة التي استَحدثت على الأعمال الفنية رقابةً حكوميةً إضافية. وما قد يُسعف في تفسير هذا الحال أن حكم السيسي الذي يرتعش من ترشّح رئيسٍ سابقٍ لأركان الجيش، سامي عنان، ومن حديثٍ عابر لنقابيّ محترم، عبد المنعم أبو الفتوح، في مقابلةٍ تلفزيونية معه، ومن مقابلةٍ تلفزيونيةٍ مماثلةٍ مع مستشار ومسؤول سابق في جهاز للرقابة في الدولة المصرية، هشام جنينة، ومن مجرّد وجهة نظر سياسية يعلنها ضابط سابق في القوات المسلحة، ودبلوماسي رفيع سابق، معصوم مرزوق، ومن آلاف من الشبّان والناشطين، هذا الحكم الذي يرتعش من هؤلاء من العاديّ أن تختنق في أثنائه مساحات حريات الفن، بذرائع يتمّ افتعالها بحسب الحاجة، من قبيل إهانة رموز الدولة، والتطاول على الجيش، والحضّ على الإرهاب، وغير ذلك من اتهاماتٍ تتزبّط لها الدعاوى ومداولات المحاكم.
رحم الله الصديق طلعت الشايب، ترجم كتاب "حدود حرية التعبير.. تجربة كتاب القصة والرواية في عهدي عبد الناصر والسادات" (دار شرقيّات، القاهرة، 1995)، طافت مؤلّفته السويدية، مارينا ستاغ، على قضايا ووقائع كثيرة متعلقة بحريات الإبداع الفني، منذ ثورة يوليو 1952 حتى بداية عهد حسني مبارك في 1981. والظاهر أن الحاجة ملحّة لإنجاز كتابٍ آخر، بشأن الجاري في دولة الانقلاب الراهنة، تحت جناح عبد الفتاح السيسي، كتابٍ يجمع ما يتراكم من قوانين وقراراتٍ يبدعها مسؤولون مختصّون، منذ صيف 2013، من شأنها تضييق مجال الحرية التي تحتاج أن تتحرّك في فضائها إبداعاتُ الأدباء والفنانين، ومن ذلك إنشاء "المجلس الأعلى للإعلام"، في إبريل/ نيسان 2017، ليكون هيئة رقابةٍ إعلاميةٍ، تمتلك سلطة رقابةٍ واسعة، وكان من أول إنجازات هذا المجلس إنشاؤه "لجنة الدراما" في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لـ "الإشراف والرقابة على الأعمال التلفزيونية على شبكات التلفزيون المصرية". ويعدّ هذا المجلس من إضافات نظام السيسي على تشكيلاتٍ شبيهةٍ قائمةٍ، منها هيئة الرقابة على المصنّفات الفنية، والتي استحدثت لها وزيرة الثقافة، إيناس عبد الدايم، ثمانية مكاتب جديدة في سبع محافظات.
أخذ الكاتب الإسرائيلي، تسفي برئيل، راحتَه، وهو يتعرّض إلى هذا الموضوع، في "هآرتس"، غير أن "تنويريين" عربا، منتشرين في غير منبر إعلامي، يتشاطرون في إعطائنا دروسا بشأن ظلامية الإسلام السياسي، من دون أن يقتربوا من عتبة استبداد السلطات الحاكمة في مصر وغيرها. والنّصيحة لهم هنا أن يستأنسوا بما خاض فيه ذلك الصحافي الإسرائيلي، وأن يقرأوا تقرير "هيومان رايتس ووتش"، والذي جاء ثمرة جهدٍ طيّب، وربما يكشف عنوانه "مصر.. حملة لسحق الفن" المدى المريع الذي يقيم فيه نظام السيسي، من حيث خنق حريات الإبداع. ويؤشّر، بإيحاءٍ مضمر، إلى بؤس مثقفين عربٍ غير قليلين، يرفعون راية التنوير وتجديد الخطاب الديني، ولا يرمون نظاما مستبدّا من شاكلة نظام السيسي بكلمة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.