هذا المهرجان السينمائي في خانيونس

06 اغسطس 2024

أطفال في القرارة غرب خانيونس يشاهدون فيلما من مهرجان العودة (صفحة سعود مهنا في فيسبوك)

+ الخط -

يستثيرُ الخبر الذي نشره "العربي الجديد"، يوم الجمعة الماضي، عن بدء عروض الدورة الثامنة لمهرجان العودة السينمائي (الدولي!) على شاشة عرضٍ قماشيةٍ في منطقة مواصي القرارة غرب خانيونس في قطاع غزّة، يستثيرُ زوبعةً من انطباعاتٍ غزيرة. أولها بشأن هذا المزاج الراقي، والبديع، لدى الذين قاموا على تنظيم هذه العروض، في غضون اعتداءات جيش الاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة التي يستمرّ فيها في القطاع. وثانيها بشأن هذا الحرص لديهم على انتظام هذا المهرجان السنوي، وكيف أمكن لهم توفير الأفلام، وتهيئة ظروفٍ مناسبةٍ لعرضها، تتحدّى عمل المحتل النشط في حرمان الغزّيين، وهم المنكوبون بالتجويع والنزوح والأمراض، من كل تفاصيل الحياة الطبيعية. وثالثها بخصوص ما يمكن أن يُقال في نشاط كهذا، فنيٍّ ثقافيٍّ مشهدي، ينتظم في أتون حرب إبادة جماعية بين خيام نازحين مشرّدين يغالبون أحوالاً شديدة الصعوبة في تأمين المأكل والدواء، وقبلهما وبعدهما، في تيسير مقادير من هناءة البال.
وإذ يستحقّ الناشطون الذين يشرفون على المهرجان السنوي، بقيادة مديره المخرج سعود مهنّا، تحيّاتٍ وفيرةً على جهدهم الاستثنائي هذا، فإننا في الصحافة الثقافية والفنية مطالَبون بإضاءاتٍ أوْفى على هذا النشاط الخاص في ظرفيّته البالغة التعاسة، سيّما وأن الحديث يجري عن مهرجانٍ ينشغل بموضوع العودة، وفي الصدارة منه حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم، وذلك فيما النازحون في الخيام في مواصي القرارة يتطلّعون إلى العودة إلى ما تبقّى من بيوتهم ودورهم وحاراتهم في بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا وغزّة وغيرها من مدن شمال القطاع وأريافه ومخيّماته، ومما تسعى إليه المقاومة في المفاوضات العسيرة والمتعثرة للوصول إلى وقف لإطلاق النار أن يعودوا جميعاً إلى حيث كانوا. وهذه بعض الأفلام التي أفاد تقرير "العربي الجديد" بأنه جرى عرضُها، بين الخيام وعلى أقمشة، تنبني محكيّاتها ومشهديّاتها على فكرة العودة، كما الفيلمان، الأردني "سلطانة" للمخرج هيثم عبدالله والأسترالي "بيتنا".
سيكون من التكرار التقليديّ إيّاه الحديث عن إرادة الحياة لدى الفلسطينيين، وهم لا يقدرون منذ عشرة أشهر على عدّ شهدائهم اليوميين، في مواجهة شهوة القتل لدى عدوّهم الفاشي. سيكون من عاديّ الكلام المعهود أن يقال، بمناسبة انتظام مهرجان سينما بين خيام نازحين في خانيونس، إن الفلسطينيين يُبدعون في صناعة الفرح، وليسوا متيّمين بالموت، على ما قد توحي خطبٌ ومواعظ تعبوية يُنصَح هنا بمراجعة مضامينها، وعلى ما تفعل دعاية صهيونية نشطة. ... وعندما تُصادف خبرا عن رقصات دبكةٍ جماعيةٍ في حفلاتٍ مرتجلةٍ في مراكز الإيواء والنزوح يقيمها شبّانٌ وصبايا في جباليا وبيت لاهيا وغيرهما، فإنك لا بد ستعيدُ القول المستعاد عن قدرة الفلسطينيين على ابتكار لحظات فرح وسعادة، يسرقونها وهم يُحاربون من أجل الحصول على ما يُنجيهم من الموت جوعاً وعطشاً، ومن الموت بقذائف عمياء يرميها عليهم الباغي المعتدي. وعندما تلقى خبراً عن فلسطينيٍّ، اسمُه محمد سعد، يربط ماكينة الخياطة الخاصة به بدرّاجة هوائية قديمة، من أجل أن تعمل فيواصل مهنته خيّاطاً لتحصيل قوت عيشه وأبنائه، فإنك لا بدّ ستُدهش من قوة الإرادة لدى هذا الغزّي الذي يشابه كثيرين غيره من نساء ورجال في القطاع، يحاولون إبداع ما أمكن من وسائل التحدّي الصعب في مقاومة ظروف شديدة القسوة.
لسنا نعرف إن كان مهرجان العودة السينمائي الدولي في دورته الحالية في مواصي القرارة غرب خانيونس سيختتم عروضَه بمنح أفلام وممثلين جوائزه الدورية أم سيُختتم بكيفيةٍ أخرى. وأياً كان الحال، إن الذين بادروا إلى هذه الخطوة الشجاعة والبديعة هم الأوْلى بالتكريم بجائزة تقدير كبرى، لصنيعهم اللافت هذا، وربما يغبِط بعضُنا من سيمكن له أن يشاهد الأفلام العديدة المُدرجة للعرض في المهرجان الاستثنائي هذا، ذلك أن أفلاما منها لا تتوفّر لنا، نحن البعيدين عن خانيونس، القريبين من الفجيعة الحادثة هناك، أن نشاهدها.
كل التحيّة للفنان سعود مهنّا وأصحابه ... وألف وردة ووردة لروّاد المهرجان بين الخيام هناك.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.